التعذيب الديمقراطي



صور نتذكرها جميعاً: الصورة الأولى لسجان أمريكي مدجج بالسلاح يعذب معتقلاً، وذلك بتغطيس رأسه في إناء  كبير مليء بالماء البارد في عز الشتاء وهو عار تماماً، وصورة ثانية لرجال عراة مكبلون بالسلاسل وأيديهم مقيدة من الخلف إلى الأعلى، وصورة لرجل صور من جوانب مختلفة وآثار التعذيب والكدمات ظاهرة على كافة أجزاء جسده العاري، وصورة أخرى لمجندة أمريكية وهي تضحك بعد أن طأطأت رأسها لتلتقط صورة تذكارية، مع مَنْ؟ مع جثة رجل قتل أثناء التعذيب، ومشهد آخر، لرجال عراة يركضون بعد أن أغمسوا في حفر المياه الآسنة للمعتقل  وحولهم جنود يضحكون، ورجل جاث على ركيتيه وهو مكبل بالسلاسل، وعسكري يمسك بيده كلباً يحاول أن ينهش من لحم وجه الرجل المكبل، وصورة لرجل آخر مكبل القدمين واليدين وأسلاك الكهرباء متدلية حيث التعذيب بالكهرباء ليلا ونهاراً، بالإضافة إلى أكثر من لقطة تظهر التمثيل بجثث الذين قتلوا في التعذيب والجنود الأمريكان يلتقطون الصور التذكارية.
أتعرفون أين التقطت هذه الصور؟ إنها في مدينة السلام، بغداد المغتصبة، وبالتحديد في منطقة أبو غريب ، حيث يقع سجن "أبو غريب"، على بعد 32 كم غرب العاصمة بغداد، وهو سجن اشتهر بعد احتلال العراق لاستخدامه من قبل قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، وإساءة معاملة السجناء داخله، وذلك إثر عرض صور عام 2004 تبين المعاملة المريعة من قبل قوات الاحتلال للسجناء من كلا الجنسين داخل السجن.
القضية هز دويها المنظمات الحقوقية الدولية، بعد الكشف عن قيام ضباط أمريكيين، كانوا يتولون الإشراف على إدارة السجن، بانتهاكات واسعة ضد عشرات السجناء، وكذلك بعد نشر صور لهؤلاء الضباط وهم يسخرون من سجناء كان يتم وضعهم عراة فوق بعضهم، أو أثناء تهديدهم باستخدام كلاب، أو بعد تعريضهم للصعق بالكهرباء.
وعلى إثر هذه الفضيحة التي يندى لها جبين الإنسانية دعت العديد من المنظمات الدولية والمحلية إلى إغلاق السجن ومحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات وذلك  في وسائل الإعلام في مايو من العام نفسه، دعت.
وكانت المجندة ليندي إنغلاند، صاحبة الوجه الأكثر شهرة في فضيحة "أبو غريب"، والتي وصفت بأنها "بطلة الفضيحة"، قد ظهرت في عدة صور التقطت في أواخر 2003 من قبل حراس أمريكيين، حيث ظهرت في إحدى الصور وهي تمسك سجيناً عارياً بحبل، بينما ظهرت في أخرى مع جبل من المعتقلين العرايا، تشير إلى جسده وهو عار تماماً، بينما تدلت سيجارة من طرف فمها.
حاولت الإدارة الأمريكية السابقة التهرب من مسؤوليتها القانونية عن هذه الجرائم، وكذلك فعل رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي حينها ، لكن الأدلة الثابتة، جعلتهم أمام الأمر الواقع، ورغم ذلك عملت الإدارة الأمريكية السابقة على إخفاء هذه الصور عن الرأي العام ووسائل الإعلام.
وفي محاولة من الإدارة الأمريكية الجديدة لتجميل صورة أمريكا البشعة في العالم، وكذلك بعدما أمرت محكمة الاستئناف في الدائرة الثانية العام الماضي بأن يتم الإفراج عن الصور، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" ، وذلك على لسان اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، أنها ستفرج عن"عدد لا بأس به" من الصور التي تكشف الانتهاكات والإساءات التي تعرض لها المعتقلون والسجناء في معتقلات في العراق، إلى جانب عدد آخر من الصور من أفغانستان، وهي ملتقطة  في مرافق أخرى غير معتقل "أبو غريب" السيئ الصيت.
وفي رسالة موجهة إلى المحكمة الفيدرالية، وموقعة من القائم بأعمال الادعاء العام، ليف داسين أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها ستفرج عن الصور، أنه سيتم الإفراج عن 21 صورة، وأن الحكومة  الأمريكية تعمل على الإفراج عن عدد آخر كبير من الصور.
هذه الصور حسبما أكد محامي اتحاد الحريات المدنية، أمريت سينغ توفر دليلاً مادياً وملموساً  على أن الإساءات للسجناء التي قام بها أمريكيون لم تكن مجرد أخطاء فردية وإنما منتشرة، وتجاوزت جدران سجن أبو غريب، والتي من المتوقع أن تنشر بتاريخ 28 مايو المقبل.
وكان الاتحاد الحريات المدنية قد رفع قضية بهذا الخصوص في العام 2004، بعد أن رفضت إدارة الرئيس الأمريكي السابق طلباً سابقاً له في العام 2003 بفتح السجلات.
جريدة "الاندبندنت اون صنداي" ذكرت في مقال لباتريك كوكبورن نشر يوم 27/4/2009 أن التعذيب الذي شهدته سجون العراق خلال الاحتلال الأمريكي تسبب في مقتل أناس أكثر مما تسببت به هجمات 11 سبتمبر2001.
ونقل التقرير عن الميجور ماثيو اليكساندر، الذي حقق مع أكثر من 300 سجين في العراق قوله بان "السبب الذي يدفع المقاتلين الأجانب إلى العراق  يتمثل في المعاملة التي تعرض لها السجناء في جوانتانامو وأبو غريب، وليس الايدولوجيا الإسلامية".
وأشار الميجور اليكساندر في كتابه إلى أن الأشخاص الذي يتعرضون للتعذيب قد يدلون بمعلومات مضللة".
هي صور للتعذيب "الديمقراطي" في العراق المحتل، ولا ندري أي حقد يحمله هؤلاء الذين يضحكون وهم يلتقطون الصور التذكارية مع جثة رجل له زوجة وأطفال ينتظرونه، وله أحلام وطموحات قتلت في لحظة تهور من جندي أرعن فنان بالقتل والإجرام فقير من الخلق والإنسانية.
رغم كل هذه المآسي والآلام سننتصر، ورغم كل هذه الصور البشعة سننتصر، ورغم كل التضحيات سننتصر، وسيولون الدبر، وإن غدا لناظره لقريب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى