محاصرون وسط الخراب ...حكاية الفلوجة !




المدن لها أقدار كأقدار البشر، فهنالك مدن ارتبط اسمها بالحكمة، وأخرى بالنقاء، وثالثة بالتسامح، ورابعة بالصمود والتحدي، وهكذا حال أغلب مدن العالم كل مدينة امتازت بصفة ما، وتختلف نسب التميز بين مدينة وأخرى.

ومدن العراق بعد عام 2003، كان لها نصيب من هذه الأقدار، ومن بين هذه المدن مدينة الفلوجة، في محافظة الأنبار الغربية.
الفلوجة مدينة التحدي للمحتل الأمريكي، ومدينة الصمود في وجه آلته الحربية القاسية، ومدينة التضحيات الجسام، ومدينة المساجد، واليوم هي مدينة الجوع والخراب.
منذ بداية العام 2014، وهذه المدينة تعاني من الخراب والقتل والدمار، والحجة - هذه المرة - وجود تنظيم داعش في داخلها. ومنذ عدة أشهر تحاول القوات العسكرية العراقية المدعومة بمليشيات الحشد الشعبي الدخول لهذه المدينة، واستخدمت كافة الأساليب العسكرية المقبولة وغير المقبولة لتحقيق أهدافها، إلا أنها حتى الآن عاجزة عن تحقيق هذا الهدف العسكري.
ومن أجل تحقيق غايتها العسكرية استخدمت الحكومة الطائرات والبراميل المتفجرة، والمدفعية، وهدمت مئات المنازل، وهذه الأيام أضافت الحكومة أسلوب الحصار الاقتصادي الشديد، بحجة أنها تريد أن تفرض "هيبة الدولة"، وتضعف مقاتلي التنظيم، ونحن سنقبل بهذا المنطق بغض النظر عن الموقف من مجمل العملية السياسية الجارية في العراق بعد العام 2003، وعليه وفي ظل هذا النقاش أو الجدال نثير هنا السؤال الآتي، هل جميع من هم داخل الفلوجة من مقاتلي تنظيم الدولة" داعش"؟
وحتى يكون الجواب مقنعاً فإنني أفضل الجواب الرسمي لأنه حجة على الجميع بما فيهم الحكومة، وسأنقل هنا تصريحاً مهماً للسيد سعدون الشعلان قائم مقام مدينة الفلوجة، - وهو مسؤول حكومي- الذي أكد فيه بداية شهر شباط الماضي: "أن هناك أكثر من خمسة آلاف عائلة مهددة بالموت في مدينة الفلوجة بسبب نقص المساعدات الإنسانية، وأن هناك الآلاف من العائلات المحاصرة في مدينة الفلوجة، والتي تعاني من نقص المساعدات الإنسانية والغذائية والدوائية، حيث تمنع القوات الحكومية العراقية دخول المساعدات إليها، بسبب سيطرة تنظيم "داعش"على المدينة، وأن المتضرر الوحيد من منع دخول المساعدات الإنسانية إلى الفلوجة هم المدنيون والأسر التي تقدر بالآلاف، وأن العديد من المدنيين لقوا مصرعهم جراء نقص الأدوية والغذاء ، بينهم أطفال ونساء وكبار السن".
وهنا سنسلم جدلاً بالأرقام التي ذكرها الشعلان - على الرغم من قناعتنا بأن المحاصرين أضعاف هذه الأعداد - ولو افترضنا أن معدل العائلة الواحدة هو ستة أشخاص فهذا يعني أن هنالك ما لا يقل عن (30) ألف مدني داخل الفلوجة، في حين تؤكد بعض الإحصائيات غير رسمية إلى وجود أكثر من ( 100) ألف نسمة داخل مدينة الفلوجة وضواحيها، وأنهم يعانون من مجاعة حقيقية أودت بحياة العشرات من المرضى ولا سيما المصابين بالأمراض المزمنة، والأطفال والنساء الحوامل بسبب سوء التغذية وانعدام الطعام المناسب وشحة حليب الأطفال.
وهنا نقول إن تصريح الشعلان واضحاً ولا يمكن أن يتهم الشعلان أنه ضد الحكومة في هذه التصريحات لأنه موظف حكومي، وعليه فإن فرضية وجود مدنيين في داخل الفلوجة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
حصار الفلوجة الاقتصادي تسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية لمستويات خيالية حيث وصل سعر الكيلو غرام الواحد من التمر إلى (50) دولار تقريباً، وهو القوت الرئيسي لغالبية السكان الذين لم يعودوا يملكون المال الكافي لشراء المواد الغذائية، ووصلت أسعار الرز والطحين إلى قرابة (15) دولار للكيلو الواحد، ورغم هذه الأسعار المرتفعة فان المواد الغذائية نادرة الوجود.
الحرب الدائرة في الأنبار اليوم هي حرب إبادة جماعية، يفترض بالمجتمع الدولي والأمم المتحدة التي أكدت على لسان منسقة الشؤون الإنسانية فيها السيدة  (ليز غراد) "وصول تقارير عن أشخاص يموتون بسبب الجوع ونقص الغذاء والدواء"، أن يوقفها.
الجوع الظالم والحصار اللاإنساني  هو الذي دفع امرأة من أهالي الفلوجة للانتحار مع أطفالها الثلاثة في نهر الفرات بعد أن وجدت نفسها أنها لا تحتمل صرخات أطفالها الجائعين، وهذا الجوع هو الذي دفع امرأة أخرى للسير في شوارع المدينة لتطلب من الأهالي أخذ طفلها حتى يأكل، هاتان الصورتان وغيرهما تصور لنا بعض الأسى الذي وصل في المدينة.
تجويع المدنيين وإذلالهم، لا يمكن أن يكون سبيلاً لنشر هيبة الدولة، والدول المعتبرة تنشر هبيتها بالعدل والإنصاف والمحبة وعدم التفريق بين المواطنين، وهذا ما لا تقوم به الحكومات المتعاقبة على حكم العراق حتى اليوم.
إن ذبح الطفولة ونحر الإنسانية، وقتل القيم في الفلوجة عبر هذا الحصار المليء بالحقد والكراهية، لا يمكن أن ينتج عنه إلا مزيداً من الدمار المجتمعي، وازدياد القناعة الشعبية لملايين المواطنين بأن الحكومات المتعاقبة على حكم العراق تعامل المواطنين وفقاً لأسس طائفية غير عادلة، ولا تخدم البلاد.
مهما طال الحصار على الفلوجة فإنها ستبقى مدرسة للصبر والصمود والتاريخ القريب يشهد لها بتلك البطولات والتضحيات التي قدمتها نصرة للدين والوطن والإنسانية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العراقيّون وكِذْبَات نيسان والتناحر المُرتقب!

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!