العيد قبل احتلال العراق وبعده



العيد "يوم الجائزة", يوم الصفاء ونبذ البغضاء والأحقاد، وفيه تتجدد الحياة, ويتجدد العهد لله الواحد الأحد على أن نكون عباداً مخلصين له سبحانه؛ ننفذ أوامره وننتهي عن نواهيه,  ونعمل من أجل عمارة الأرض بما يريده سبحانه؛
والعيد جعله الله تعالى أياماً للاحتفال بهذه الجائزة الربانية؛ وهي رضاه وقبوله سبحانه ـ إن شاء الله ـ لعمل العباد بعد شهر من الصيام والقيام وأنواع البر والطاعات المختلفة؛ ونحن في العراق نحتفل بالعيد ـ كغيرنا من بلاد العالم الإسلامي ـ بتقاليد وعادات محددة, وهنا سأتكلم عن العيد في العراق قبل الاحتلال وبعده.
كان عام 2003 عام الفصل بين هاتين المرحلتين من الحياة في العراق, المرحلة الأولى هي مرحلة السيادة لدولة معترف بها في الأمم المتحدة,  وينعم أهلها بالأمان والطمأنينة رغم كل الظروف الصعبة التي كانت في البلاد بسبب الحصار المفروض على البلاد, والمرحلة الأخرى هي مرحلة الخراب والدمار والاحتلال بعد أن دنست قوات الاحتلال الأمريكية وحلفاؤها أرض العراق الحبيب. 
العيد قبل الاحتلال
طالما نحن في شهر رمضان المبارك، فإنني سأتكلم عن عيد "الفطر" في العراق والذي لا تختلف فيه طباع العراقيين وعاداتهم عن "عيد الأضحى المبارك"، إلا بانتظار يوم الإفطار.
واستعداد الناس للعيد "الفطر والأضحى" يتضح في الأيام العشرة الأخيرة التي تسبق العيد.
حيث تستعد العائلة العراقية لاستقبال العيد بجملة من العادات والتقاليد منها شراء ملابس جديدة، والأولوية ـ في الشراء ـ تعطى للأطفال والنساء، وعادة ما يكون الرجال آخر من يشتري هذه الأشياء.
وتحضر هذه الملابس في ليلة العيد بعناية فائقة، بل إن كثيراً من الأطفال ينامون بملابس العيد؛ ثم تحاول الأمهات تغييرها ليلاً بعد نومهم.
والبيوت العراقية ـ عادة ـ ما تنظف ليلة العيد بشكل واضح، حتى أنك تلاحظ أن الغسيل طال كل زوايا المنزل، من غير استثناء.
أما من ناحية إعداد الأطعمة فإن العائلات العراقية تعتني بتحضير الكليجة "المعمول"؛وهي عبارة عن عجينة تقطـّع على شكل دوائر صغيرة ثم يوضع فيها إما تمر أو جوز أو لوز أو مبروش ثم تصف في "صينية"؛ وهي عبارة عن إناء كبير من المعدن, وتأخذها النساء والأطفال وهم يحملونها على رؤوسهم للأفران ؛ وفي هذه الأيام ـ الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان ـ لا تخبز المخابز الصمون ـ أي الخبزـ إلا في فترة المساء بينما تنشغل طول النهار بعمل الكليجة.
والنسوة وهنَّ على طريق عودتهنّ للبيت ـ  وهنّ يحملنّ الكليجة ـ يوزعنَ منها لأولاد الحي ولكل من يطلب منهنّ، حيث تكون رائحتها زكية ومنتشرة في كل مكان تقريباً.
أما في يوم العيد فبعد أن يصلي الناس صلاة العيد في المسجد ويتعايدون فيما بينهم "أي يتبادلون التهاني"، يعودون لبيوتهم لمعايدة الأطفال وتناول وجبة الفطور،التي عادة ما تكون بعد الصلاة.
والأطفال في صباح العيد يلبسون ملابسهم الجديدة، وهم جميعاً حريصون للذهاب إلى أقاربهم للحصول على (العيدية) ـ وهي عبارة عن مبالغ بسيطة من المال توزع على الأطفال وكذلك توزع من قبل الآباء على الأولاد الصغار والبنات المتزوجات.
وهنالك بعض الشباب في مناطق متفرقة يجتمعون في صباح عيد الفطر في بيت أحدهم للفطور الجماعي، في أول فطور بعد شهر من الصيام؛ ووجبة الفطور في يوم العيد يعتنى بها ـ  في الغالب ـ وتتكون عادة من القيمر " الكيمر " وهي القشطة التي تستخرج من حليب الجاموس,  إضافة إلى الجبن والبيض والصمون الحار " الخبز"، وبالتأكيد لا يعد الفطور فطوراً إلا باحتساء الشاي العراقي الذي يعد بطريقة مميزة.
ومن العادات التي ما زال العراقيون يحافظون عليها هي الاجتماع في بيت رئيس العائلة, أو كبيرها، لتناول وجبة الغداء في اليوم الأول للعيد, ثم يذهب الناس بأولادهم "للملاعيب"، وهي أماكن العاب للأطفال حيث إن العديد من الأحياء العراقية,  حتى في العاصمة بغداد,  تنصب  في شوارعها أو المساحات الفارغة "المراجيح " وهي عبارة عن أعمدة تربط  فيها حبال لتأرجح الأطفال بها, وكذلك يوجد في المكان نفسه عربات تجر بواسطة الخيول, يصعد فيها الأولاد في جولة في الحي, ثم العودة إلى المكان نفسه, هذا إضافة إلى ركوب الخيل، وعادة ما تكون هذه الملاعيب زهيدة الثمن. 
وهنالك بعض العائلات تأخذ أولادها للمنتزهات القريبة خصوصاً مدينة الألعاب عند قناة الجيش شرق بغداد ومتنزه الزوراء.
وفي العيد تكثر الزيارات العائلية,  بين الأقرباء والأصدقاء, ويقدم فيها للضيف ـ في الغالب  ـ الكليجة "المعمول" مع الشاي أو العصير.
ولا ننسى؛ أنه في يوم العيد ـ وبعد صلاة العيد ـ  يأتي أبو الطبل, الذي كان يوقظ الناس للسحور ـ والذي يسمى في بعض الدول " المسحراتي "ـ وهو يدق على طبله, ويخرج  له الأهالي (عيدية) جزاء على ما بذله من جهد طيلة الشهر الفضيل.
وعلى العموم,  العيد في العراق هو مناسبة لتناسي الزعل "الخلاف" بين الجميع؛ حيث يحاول الأقرباء والأصدقاء إنهاء الخلافات بين المتنازعين, حتى أنك لترى أن مرحلة ما بعد العيد كأنها مرحلة حياة جديدة للناس.
العيد بعد الاحتلال
العيد بعد الاحتلال فقد بريقه الزاهي وصار يوماً كبقية الأيام ـ بل هو أمَرّ ـ حيث يتذكر الناس ذكرياتهم الجميلة التي فقدوها، بسبب هذا الوحش الكاسر الذي يدعي أنه جاء محرراً وناشراً للـ"ديمقراطية" في البلاد.
أما العيد بعد الاحتلال؛ فإن الناس هنا فوجئوا بدبابات الاحتلال, وهي تدمر شوارع بغداد والمحافظات الأنيقة, وما إن استفاقوا من الصدمة، حتى عرفوا أنهم سلبوا وطنهم, وأنهم اليوم تحت رحمة دبابات الاحتلال الغازية, وما هي إلا أيام معدودات حتى شمّر الناس عن سواعدهم, وتركوا الدنيا ومغرياتها, ليلقنوا الاحتلال وأعوانه دروساً نادرة في التضحية والفداء من أجل استقلال البلاد.
وفي العيد تحت ـ مظلة الاحتلال ـ وبسبب استهتار قواته واستخفافها بأرواح الأبرياء, حيث باتت تطلق النار على كل ما يتحرك على الأرض خوفاً من ضربات المقاومة العراقية الباسلة التي ألبست الاحتلال وأعوانه ثوب الرعب والقلق والهستيريا,  وكذلك تغلغل  المليشيات الطائفية في الأجهزة الأمنية وجرائمها المعروفة للجميع, كل ذلك جعل الناس تضطرـ مكرهة ـ لترك صلاة العيد وصلاتي الفجر والعشاء, وتركوا أيضاً ـ الزيارات العائلية, وتجاهلوا الكثير من العادات والتقاليد التي تحدثنا عنها في بداية هذا التقرير, ومنها الخروج أيام العيد لأماكن اللهو البريء وغيرها من العادات، لأنك حيثما ذهبت تجد الغرباء من جنود الاحتلال الأمريكي والمليشيات التخريبية، التي نشرت وتنشر الرعب بين الأبرياء من العراقيين.
وانشغلت العائلات العراقية خلال أكثر من ثلاث سنوات وخصوصاً منذ عام 2004 وإلى اليوم، بكيفية تأمين لقمة العيش والماء الصالح للاستخدام, وسط غياب واضح لدور الحكومة وقوات الاحتلال المنشغلة بتأمين الحماية لنفسها فقط من ضربات المقاومة العراقية.
كل العادات التي كانت في العراق قبل الاحتلال ذهبت أدراج الرياح؛ مع أصوات القنابل والدبابات الخبيثة والحقد الأعمى للجندي الأمريكي، وهو يصوب رصاصاته القاتلة على كل ما يتحرك أمامه.
والناس في بلادنا رغم الألم ورغم الفتن الطائفية التي أشعلها الخبثاء؛ إلا أنهم متماسكون متحابون، شعارهم وحدتنا أغلى من كل التضحيات الثمينة التي قدمت في العراق.
وأحسن الصديق الشاعر محمد نصيف حينما يصف حال بغداد بقوله:ـ
ذبحـوك ِ يـا بـغـدادُ كـيـفَ  تـجـرَّأتْ   وتـقـاسـمـتْ  أضــلاعـَــك ِ الأوغــــادُ
سرقوا  البـريـقَ  وأطفؤوك ِ بظلمِهـِم  إنّ  إنــطــفــاءَك ِ للـــغـــزاة ِ مـُــــرادُ
جعـلوا  الـبـيـوتَ  مـقـابـرًا  فتناثـرتْ  حتى  إسـتـوتْ  بـركــامـِـهــا الأجـسـادُ
قـد  شـرَّعـوا  القتلَ  الرخيصَ مغانمًا حتى إرتوتْ  بــدمــائـِنــا  الأبــــعـــــادُ
ملأوا  الـحـيـاة َ مــرارة ً فـتـوشـَّحتْ  بالـقـهـر  والصـمـت ِ الـمـخـيـف ِ بـلادُ
وضفافُ دجلة َ كـــم  بـكـتْ  روّادَها  إذ ْ راحَ  يـهـجــرُ  مــوجــَهــا  الــــروادُ
لم  يـبـقَ  مـن  بـغــدادَ  إلاّ  صـــورة ٌ يـنـعـى  ســـنـاهـا  للــورى  الإجــهــــادُ
هذه هي  بعض الحقيقة المؤلمة التي تعيشها ـ اليوم ـ مدينة المنصور والرشيد، بغداد الحبيبة.
إن العيد الحقيقي للعراقيين, هو بخروج الاحتلال الأمريكي الذي يقف وراء كل هذه الجرائم البشعة, بحق الأبرياء من شعبنا الصابر الطيب، وكذلك بخلاصنا من الغرباء الذين يدعون أنهم عراقيون, وكانوا سوطاً مسلطاً على أبناء جلدتهم ولم يقدموا شيئاً للعراق, ويوم اندحار الاحتلال وأعوانه وخروجهم بوجه أسود بعدما نجسوا أرض الرافدين الحبيبة ودنسوا مياه دجلة والفرات الحبيبين.
 وبعد خروج كل هؤلاء, ستعود كل أيامنا أعياداً, وسنحتفل في العيد القادم ـ إن شاء الله ـ بالتحرير وبالخلاص من العملاء؛ اللهم آمين.
للتواصل مع الكاتب :
10/3/2008

موقع رسالة الاسلام

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى