الانسحاب الأمريكي من العراق.. آفاق مستقبلية!

 في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" أنه " سيتم بدء سحب جزء من القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان خلال الساعات المقبلة".

وقال وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة (كريس ميلر) في بث حي أذاعه الحساب الرسمي للوزارة على (تويتر): " البدء بسحب جزء من القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان خلال الساعات المقبلة"، مؤكداً: "سنخفض القوات الأمريكية في العراق من 3200 إلى 2500 مقاتل".

وأضاف: " سننفذ أوامر الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من العراق وأفغانستان"!

وفي الحادي عشر من حزيران/ يونيو 2020 أكدت الولايات المتحدة الأمريكية مواصلة تقليص وجودها في العراق، حسبما أعلنت الدولتان في بيان مشترك عقب انطلاق "حوارهما الاستراتيجي". وحسب البيان إنّه "في ضوء التقدّم الكبير المُحرز نحو القضاء على تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، ستواصل الولايات المتحدة في الأشهر المقبلة خفض العديد من قوّاتها في العراق"، من دون تقديم تفاصيل إضافيّة.

وذكرت وكالة الأنباء العراقية الرسمية نقلاً عن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أن " بغداد وواشنطن أكدتا التزامهما بانسحاب القوات الأمريكية، وذلك دون تحديد جدول زمني".

وقال الكاظمي "جرى تأكيد الانسحاب الأمريكي من العراق لجميع المتواجدين وعدم وجود أي قواعد"!

فهل ما ذكرته واشنطن منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر يقع ضمن هذا الاتفاق، أم هنالك غايات أمريكية أخرى غير واضحة المعالم حتى الساعة؟

لا شكّ أن هذه التصريحات الرسمية والتحركات العسكرية الأمريكية لها انعكاساتها الكبيرة على أرض الواقع العراقي، وربما الإقليمي!

بداية يجب أن نتفهم أن هذه التحركات العسكرية تأتي مع (ترقب) العالم لرئيس أمريكي جديد سيدخل للبيت الأبيض، وبالتأكيد ستكون أولوياته، وفريقه المرافق مختلفة تماماً عن أولويات الرئيس دونالد ترامب، الذي (أدخل) منطقة الشرق الأوسط في موجات تسونامي لا ندري متى تهدأ رغم قرب رحيل الرئيس ترامب من البيت البيضوي؟

وكذلك تأتي هذه التطورات في وقت تستمر فيه الضربات الصاروخية (العبثية) ضد السفارة الأمريكية ببغداد، وأربيل، وأيضاً مع بقاء أقل من سبعة أشهر على تنظيم الانتخابات العراقية البرلمانية المبكرة!

والأهم من كل هذا هو استمرار الأزمة المالية الخانقة التي يمرّ بها العراق، مع إقرار البرلمان العراقي لقانون الاقتراض الداخلي لتأمين رواتب الموظفين للأشهر المتبقية من هذا العام، وتأكيد رئيس حكومة بغداد يوم 20/ تشرين/ نوفمبر/ 2020 أن" الحكومة ستواجه مشكلة تأمين رواتب الموظفين اعتباراً من شهر كانون الثاني/ يناير 2021"!

وأيضاً مع دخول المنطقة في أزمة غير واضحة مع اغتيال العالم النووي الإيراني محسن زاده يوم الجمعة 28/11/2020، ولا أحد يعلم ما هي تداعيات هذه العملية، التي اتهم فيها الموساد الإسرائيلي من قبل وزير الخارجية الإيرانية، جواد ظريف؟

ومع هذه التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية الداخلية والإقليمية المركبة العراقية والإقليمية، أتصور أن مناقشة آثار الانسحاب الأمريكي على العراق والمنطقة يمكن أن تتم عبر عدة طروحات، ومنها:

-       هل هذا الانسحاب حقيقي، أم تكتيكي، ولغايات سياسية؟

أعتقد أن الانسحاب العسكري حقيقي، ومع ذلك سيتم الإبقاء أعداد كافية لتأمين وحماية المصالح والمكاسب الأمريكية في العراق، وفي ذات الوقت هو خطوة للضغط على بغداد ودول الخليج، للتخويف من (الفصائل الولائية) وعموم القوى الإرهابية، وربما هو نوع من تخويف دول المنطقة من التدخل الإيراني، وبالذات مع التقارب العراقي – السعودي خلال الأيام الماضية.

-       هل هذه الخطورة لصالح حكومة الكاظمي؟

أتصور أن الخطوة ليست لصالح الكاظمي، وبالتالي أرى أن الانسحاب سيضعف الكاظمي في غالبية الأصعدة، وبالذات في الانتخابات القادمة، التي يحلم بها الكاظمي بتشكيل حزب، أو تكتل ما.

-       هل للخطوة أي تأثيرات إيجابية، أو سلبية على مظاهرات شباب العراق؟

في رأيي هذه الخطوة ليست في صالح المظاهرات، لأن هذه الخطوة فيها (تقوية ودعم) لقوة المليشيات في الشارع العراقي، وكل ما يخدم المليشيات يضر بالمتظاهرين، والعكس صحيح.

-       هل ستجد بعض الكتل السياسية في البرلمان العراقي أن هذه الخطوة تعدّ نصراً لها، وبالذات بعد مطالبة غالبيتهم بسحب القوات الأمريكية بعد مقتل قاسم سليماني (قائد فيلق القدس) وأبو مهدي المهندس (نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي) بداية العام الحالي ببغداد؟

أتصور أن غالبية القوى البرلمانية الشيعية، وبالذات (سائرون (مقتدى الصدر)، والفتح (هادي العامري)، والقانون (نوري المالكي)، والنصر (حيدر العبادي) وحتى صادقون (قيس الخزعلي) سيعتبرون هذه الخطوة نصراً لهم، ومن عوامل دعمهم في الانتخابات القادمة.

-       هل ستعدّ المليشيات هذا الانسحاب على أنه انتصار لها؟

أظن أن موقف المليشيات لا يختلف تماماً عن موقف القوى البرلمانية آنفة الذكر، أو ما يمكن تسميته (أجنحتها السياسية داخل البرلمان) والداعمة أصلاً لتلك المليشيات تحت قبة البرلمان العراقي، وبالتالي موقفهم واحد، وهو أنهم سيعدون هذا الانسحاب نصراً كبيراً لهم.

-      ما هو موقف الرئيس الأمريكي القادم (جو بايدن) من الانسحاب، وهل سيعيد تلك القوات إلى العراق، أم لديه رأي آخر، وهل ستترك (أمريكا بايدن) الملعب لإيران؟

لا يمكن التكهن بذلك بسهولة، لكن على العموم، أظن أن موقف الرئيس بايدن ليس مثل موقف الرئيس ترامب، وربما، سيعيد، أو يزيد تلك القوات ثانية ليس للعراق، فحسب، بل إلى العديد من دول المنطقة!

وكذلك أعتقد أن إيران ستستفيد من هذه الخطوة، وربما، سيفتح لها الرئيس بايدن الباب للدخول ثانية للعراق، وللعب دور جديد في العراق والمنطقة.

-       ميدانياً: ما هو موقف المليشيات في الأنبار والموصل صلاح الدين وغيرها، وما هي احتمالات عودة سيناريو (داعش) في الموصل لبعض المدن العراقية؟

هذا السؤال من القضايا المهمة والمقلقة في العراق، فمما لا خلاف عليه أن المليشيات ستعبث أكثر في ما يسمى (المدن المحررة) وهذا لا يخدم السلم المجتمعي العراقي.

ومن هذا المنطلق الواقعي أحسب أن خطوة الانسحاب، ربما، ستعيد العديد من السيناريوهات المخيفة، سواء في محافظات  الموصل ، أو الأنبار، أو في ديالى، أو حتى مناطق حزام بغداد، وستخلط الأوراق ثانية قبل الانتخابات القادمة في حزيران/ يونيو 2021.

وقد لا تكون هذه التوقعات تتفق مع المصالح الأمريكية في المنطقة، وحينها ربما سيكون لواشنطن وطهران، بالتوافق بينهما، رأي آخر.

وربما تكون علمية اغتيال العالم النووي الإيراني، زاده، سبباً لجلب المزيد من القوات الأمريكية للعراق والمنطقة، وبالذات مع احتمالية انتقام ايران من أمريكا عبر أجنحتها في العراق!

-       هل ستنسحب أمريكا دون الحصول على مكاسب، أو أموال؟

الواقع لا يمكن تصور انسحاباً أمريكياً دون الحصول على مكاسب آنية، أو مستقبلية، وربما ستكون هنالك اتفاقية جديدة إما مع حكومة الكاظمي، أو أي حكومة قادمة.

-       ما هو موقف القوى العراقية المعارضة للعملية السياسية المستمرة في العراق من الانسحاب، وهؤلاء غالبيتهم خارج العراق، وهل سيسعون لاستغلال هذه الخطوة؟

أتصور أن الغالبية العظمى من المعارضة هم من (سُنّة العراق)، وهؤلاء يعانون من هشاشة التمثيل في العملية السياسية، وسطوة المليشيات في مدنهم (المحررة)، ومن شماعة "داعش" التي ربما تعود لمناطقهم في أي لحظة، بعد أن أكدت واشنطن أن أعداد مقاتلي "داعش" في العراق وسوريا أكثر من عشرة آلاف مقاتل!

وبناءً على ما تقدم هل من مصلحة السنّة الآن حدوث انسحاب أمريكي كامل، أو كبير، وترك الميدان لكل هذه المخاطر الكافية لسحق ما تبقى منهم من الأحياء والأحرار وغير المهجرين، بعد أن قتل وهاجر وتغرب الملايين منهم؟

في تقديري أن أمريكا هي التي أدخلت العراق في هذا النفق، وبالتالي هي المسؤولة، وبالذات مع وجود حكومات غير نقية، عن سلامة العراقيين، وفي كل الأحوال خطوة الانسحاب ليست مريحة وبالذات مع استمرار حالة اللادولة في العراق!

في كل الأحوال أتصور أن أمريكا ستكتفي ببضع قواعد في العراق، وبالذات قاعدة (عين الأسد) الاستراتيجية في الأنبار، غربي العراق، وقاعدة (الحرير) في أربيل، في كردستان العراق، وربما قاعدة التاجي ببغداد، فضلاً عن (القاعدة الدبلوماسية) المتمثلة بالسفارة الأمريكية التي تعدّ السفارة الأكبر في الشرق الأوسط، أو العالم.

وعلى كل حال أمريكا لن تترك العراق بدون ضمانات آنية، أو مستقبلية لأننا لا يمكن أن نتصور أنها بذلت وقدمت كل هذه التضحيات لوجه الله تعالى، بل هي قامت بذلك طبقاً لخطط استراتيجية؛ ولهذا لا يمكن تبديد هذه المخططات بسهولة كما يتوهم البعض دون أي مكاسب استراتيجية لواشنطن!

زبدة الكلام هو أن العراق من الدول المهمة بالنسبة لواشنطن سواء بسبب موقعه الاستراتيجي، أو لتماسه المباشر مع إيران، أو لغير ذلك من الأسباب ولهذا ستبقى أمريكا في العراق، ولن ترحل عنه بسهولة، على الأقل في الآجال القريبة والمتوسطة المرتقبة.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

السفارة البريطانيّة ببغداد... ودبلوماسيّة (الأكلات العراقيّة)!

العيد وسياسات التغريب عن الأوطان!