بريمر وخطته التدميريّة القاتلة![1]


لم يكن حلماً، بل كانت حقيقة صادمة تلك التي تتناقلها وسائل الإعلام الغربيّة والعربيّة بأنّ القوّات الأمريكيّة، ومعها عشرات الجيوش الأجنبيّة، قد انتشروا في عموم مدن العراق، وسيطروا على مجريات الأمور!

بداية كارثة بلاد الرافدين كانت في مثل هذه الأيّام قبل (18) عاماً، وقد سبقها حصار دوليّ قاتل استمرّ منذ آب/ أغسطس 1990 وحتّى لحظة الاحتلال، وقد رافق نكبة الاحتلال مئات الصواريخ العابرة للقارّات، ومئات الطلعات الجوّيّة، وعشرات الجيوش المدجّجة بأحدث الأسلحة المحرّمة وغير المحرّمة، وبعد أكثر من أسبوعين من المواجهات غير المتكافئة كانت النتيجة المتوقّعة، والفاجعة المُرتقبة، ودخل العراق في مرحلة اللادولة!

مأساة العراقيّين لم تتوقّف عن حدود الضربات العسكريّة الوحشيّة التي لم تميّز بين المدنيّين والعسكريّين، بل زاد الأمر تعقيداً بعد عدّة أسابيع حينما تمّ تعيين بول بريمر كرئيس للإدارة المدنيّة وللإشراف على (إعادة إعمار العراق) من قبل الرئيس الأمريكيّ جورج بوش الابن.

ومع اقتراب طائرة بريمر العسكريّة من مطار بغداد الدولي كانت قوّات الاحتلال تتفرّج على بقايا عمليّات النهب والسلب لخزائن العراق الماليّة والأثريّة، وهي لا تحرك ساكناً، وكأنّ واجبها انتهى بمجرّد حرق البلاد وتضييع مفهوم الدولة، ومتابعة وتشجيع الفوضى، ومنها تلك السرقات المخجلة!

حطّت طائرة بريمر على أرض العراق في الثاني عشر من أيّار/ مايو 2003، وكانت البداية لمرحلة جديدة ومدروسة بعناية، ولا علاقة لها بالإشراف على إعادة الإعمار.

ذكر بريمر في كتابه (عام قضيّته في العراق) أنّ الرئيس بوش قد فوّضني (بكافّة السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة في العراق) والحقيقة كان هذا التخويل بداية عمليّة لتدمير الدولة!

ولا ندري كيف مُنِح (بريمر) كلّ هذه الصلاحيّات الشاملة؟

وبعد وصوله مباشرة إلى العراق تسنّم بريمر مقاليد الحكم خلفاً للجنرال المتقاعد جي غارنر، واتّخذ العديد من القرارات المعدّة سلفاً، وأبرزها:

1.   اجتثاث حزب البعث!

2.   حلّ الكيانات، بما فيها الجيش، وكافّة أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للدولة السابقة!

3.    قرار استحداث آليّة لدمج الميليشيات في القوّات المسلّحة والأمن.

هذه القرارات التدميريّة، بما فيها قرار تشكيل مجلس الحكم الانتقاليّ منتصف العام 2003 وغيره، ثبّتت ركائز الطائفيّة والقوميّة في العراق، ومهّدت الطريق لمرحلة الضياع التي نحن فيها اليوم!

وبعد (18) عامًا من الاحتلال، أو التغيير، أو الضياع يئن العراق اليوم، تحت جملة من الصور القاتلة، وسنحاول الإشارة لبعضها لأنّ ذكرها جميعاً بحاجة لدراسات علميّة مطوّلة: -

-       تشويه النظام السياسيّ، والمزج بين السياسة والسلاح داخل العمليّة السياسيّة.

-       عدم وضوح ولاء غالبيّة القوّات المسلّحة والأمنيّة.

-       تنامي المليشيات، وضمور سلطات (الدولة) على القوّات المسلّحة الرسميّة.

-       فشل النظام الديمقراطيّ، وتفريخ مئات الأحزاب، ولاحقاً بروز ظاهرة الأحزاب الشبابيّة، وغالبيّتها خرجت من رحم الأحزاب المشاركة في العمل السياسيّ الهزيل المستمرّ، وتغوّل قوّة السلاح المنفلت على إرادة الجماهير وصناديق الاقتراع، مع قناعة جماهيريّة شبه مطلقة بفشل العمليّة السياسيّة بدليل ثورة تشرين المستمرّة حتّى اللحظة.

-       ضياع أكثر من ألف مليار دولار من موازنات العراق الضخمة ضمن عمليّات الفساد الماليّ والإداريّ عبر شخصيّات فاعلة في الدولة!

-       عجز الحكومات المتعاقبة عن نشر الأمن وتقديم الخدمات الصحّيّة والبلديّة وغيرهما على الرغم من الإمكانيات المادّيّة الهائلة.

-       الظلم القضائيّ وهضم حقوق عشرات آلاف الأبرياء في السجون، ومنهم من نُفّذ بحقّهم أحكام الإعدام الباطلة.

-       عدم ظهور أيّ مشروع حقيقي في القطاعات الصناعيّة والتجاريّة والخدميّة وغيرها.

-       استمرار كارثة النزوح الداخليّ والخارجيّ!

-       تحوّل العراق لساحة صراعات إقليميّة، وفي مقدّمتها الصراع الأمريكيّ – الإيرانيّ.

-       عودة ظاهرة الاختطاف والاغتيالات والتهريب وتفشي المخدّرات.

هذه الحقائق وغيرها حُفِرت في ذاكرة العراقيّين، وخُلّدت في ذكرياتهم لأنّها جزء من واقعهم البائس!

خلاصة الكلام أنّه، وبعد كلّ هذه السنوات العجاف، لا أحد يعلم مَنْ الذي يحكم العراق الآن؟

ومَنْ الذي يُصدر الأوامر المدنيّة والعسكريّة؟

ومَنْ الذي يُحرّك أحجار رقعة الشطرنج المليئة بدماء الأبرياء، وصرخات اليتامى، والثكالى، والأرامل؟

لقد دمّروا العراق بحجّة تحريره، وقتلوا أهله بذريعة تخليصهم، وسحقوا البلاد بأكذوبة إعمارها وتطويرها!

فكيف يمكن تفهُّم (التحرير، والحرّيّة، والخلاص، والتطوير والبناء) وسط مستنقعات التكبيل، والتكميم، والإرهاب، والخراب والدمار؟

@dr_jasemj67

 



[1] صحيفة عربي 21// تاريخ النشر: 14/5/2021.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

السفارة البريطانيّة ببغداد... ودبلوماسيّة (الأكلات العراقيّة)!

العيد وسياسات التغريب عن الأوطان!