الواقع الصحي ومجزرة ابن الخطيب![1]

  لا يمكن تصور وجود مجتمع أو كيان بشري دون وجود مقومات جوهرية للحفاظ على ديمومة الإنسان، وفي مقدمتها الأمن، ورغيف الخبز والعناية الصحية.

ومن هنا نجد أن الدول الراقية تعتني بالقطاع الصحي عناية فائقة في موازناتها السنوية لأنها تؤمن بأن من يريد بناء الدولة وتطويرها عليه أن يحافظ على الركن الركين في البناء وهو الإنسان!

والقطاع الصحي في العراق يعاني منذ تسعينيات القرن الماضي من إهمال اضطراري نتيجة الحصار الدولي الذي ضرب على العراق بعد غزو الكويت في العام 1990، أو متعمد نتيجة الفساد المالي والإداري الذي أكل واردات الدولة بعد العام 2003.

ومع كل الإمكانيات المالية الهائلة بقي القطاع الصحي يعاني من تقصير واضح في تقديم الخدمات للمواطنين، ولهذا نجدهم يهربون لدول العالم القريبة والبعيدة للحصول على العلاج الشافي من عللهم، وبالذات تلك الأمراض الخطيرة، وفي مقدمتها السرطان، وما يتعلق بالعظام والأعصاب وغيرها من الأمراض الفتاكة!

ومع تفشي فيروس كورونا في العالم قبل أكثر من عام ظهر القطاع الصحي في العراق على حقيقته دون رتوش، وأكدت التجربة المستمرة حتى اللحظة أن هذا القطاع يعاني من ترهل وتخريب وإنهاك شديد.

وفي بداية هذا العام كشف تقرير مصور لشبكة أخبار "سي إن إن" الأميركية من داخل وحدة للعناية المركزة الخاصة بالمصابين بكورونا في بغداد، تفاقم معاناة العراقيين في مواجهة الوباء، في ظل شح الإمكانات المادية والبشرية، وسط أزمة اقتصادية خانقة.

وكشف التقرير الذي نقلته قناة الحرة الأمريكية عن تخوف عراقيين من الذهاب إلى المستشفيات لتلقي العلاج "بسبب الذهنيات المحلية" حسب وصف أحد الممرضين، الأمر الذي فاقم من مشكلة انتشار الفيروس وتدهور حالة كثيرين ممن أصيبوا بالمرض، وأن بعض العراقيين لا يثقون في قدرة الهياكل الصحية على تقديم خدمة جيدة لمرضاهم، نتيجة تراجع الإمكانيات في ظل الوضع الأمني والاقتصادي المتردي منذ سنوات.

والأدلة على أن العراقيين لا يثقون بالمؤسسة الصحية أكثر من أن تحصى لهذا فإن غالبية من نلتقي بهم يتحدثون عن واقع هزيل بحاجة لثورة تبدأ من المربع الأول لإعادة الحياة لهذا القطاع الحيوي.

عانى العراق من جملة من الحوادث المذهلة القاتلة داخل المستشفيات التي يفترض أن تكون أماكن للحياة، لكنها يبدو في العراق هي مقابر صحية تكون حصيلتها إما الموت نتيجة الإهمال الصحي أو الإهمال الخدمي، أو الفني وهذا ما حدث في مستشفى ابن الخطيب ببغداد!

حادثة مستشفى ابن الخطيب تذكرنا بكارثة مستشفى اليرموك ببغداد في آب 2016، حيث توفي 22 طفلا خديجا في مستشفى اليرموك وسط العاصمة العراقية بغداد، جراء اندلاع حريق داخل قسم الولادة، والحريق نتج عن تماس كهربائي جراء انفجار أنبوبة أوكسجين في أحد الممرات التي توضع فيها أسرة الأطفال الخدج.

مجزرة ابن الخطيب كما سماها العراقيون في مواقع التواصل الاجتماعي وقعت في ساعة متأخرة من ليلة السبت (24/4/2021) وذلك نتيجة الإهمال الواضح في تخزين قناني الأوكسجين، وعدم توعية بعض المرافقين لخطورة هذه القناني التي تعتبر قنابل قاتلة يمكن أن تنفجر بسبب أي تماس كهربائي، أو عدم اخذ الاحتياطات اللازمة الواجب اتباعها عند استخدامها!

وأعلنت وزارة الداخلية العراقية استشهاد 82 شخصاً وإصابة 110 بحادث حريق مستشفى ابن الخطيب الذي اندلع في وحدة العناية المركّزة في المستشفى.

مصادر طبية حكومية أكدت أن الحريق نجم عن انفجار سببه "عدم الالتزام بشروط السلامة المتعلّقة بتخزين أسطوانات الأوكسجين"!

وقد تسبب الحادث باحتراق مواصل التواصل الاجتماعي بردود فعل كبيرة وقاسية ضد الحكومة عموما ووزارة الصحة على وجه الخصوص، وقد كانت هنالك دعوات شعبية بضرورة إقالة الوزير ومحاسبة المقصرين!

هذا الضغط الشعبي دفع رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي عبر اجتماع أمني طارئ لإعلان الحداد على أرواح شهداء الحادث المأساوي في المستشفى والمطالبة "بتقديم نتائج التحقيق في الحادثة خلال 24 ساعة".

وهذه التوجيهات الحكومية لاقت استهجانا كبيرا من الشارع العراقي مما دفع الحكومة بعد عدة ساعات إلى إعلان جملة من القرارات، وهي:"

١- إجراء تحقيق برئاسة السيد وزير الداخلية، وعضوية كل من:

أ- وزير التخطيط.

ب- وزير العدل.

ج- رئيس هيئة النزاهة.

د- رئيس ديوان الرقابة المالية الاتحادي.

ه- ممثل عن مجلس النواب/ عضو مراقب.

٢- التحقيق في حادث حريق مستشفى ابن الخطيب، وتحديد المقصرين ومحاسبتهم.

٣- تسحب يد السيد وزير الصحة وإحالته إلى التحقيق.

٤- تسحب يد السيد محافظ بغداد وإحالته إلى التحقيق.

٥- تسحب يد السيد مدير عام دائرة صحة الرصافة وإحالته إلى التحقيق.

٦- ينجز التحقيق أعلاه خلال خمسة أيام، ويقدم التقرير أمام مجلس الوزراء، ويمكن الاستعانة بخبراء في مجال الداخلية والصحة"!

ومع ذلك لم تقنع هذه القرارات الحكومية الشارع العراقي، وهنالك مطالب بضرورة إقالة الحكومة كاملة لمسؤوليتها القانونية والأخلاقية عن هذا الخلل الكبير!

هذا الواقع المزري دفع بعض الكتل لتصفية حساباتها مع الكتل الأخرى ومنها الكتلة التي ينتمي إليها وزير الصحة إذ وصف النائب عن تحالف الفتح، حسن سالم، الأحد، وزارة الصحة بأنها دكان للمتاجرة بأرواح المرضى الذين يذهبوا إلى العلاج ليلاقوا حتفهم حرقا في مستشفى ابن الخطيب، وطالب بـ"إقالة وزير الصحة نتيجة للإخفاق والتهاون الذي أدى الى حدوث فاجعة في مستشفى ابن الخطيب".

حادثة مستشفى ابن الخطيب ليست الأولى ونأمل أن تكون الأخيرة لكن الواقع الخرب للوزارة ربما يجعل أمنياتنا هواء في شبك!

الدول تبنى بالإنسان، والغذاء والدواء والكرامة من أولويات البناء للمجتمعات، فمتى تهتم الحكومة بصحة المواطن العراقي وقوته؟

 



[1] مركز الرافدين للدراسات: تاريخ النشر: 26/4/2021.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

السفارة البريطانيّة ببغداد... ودبلوماسيّة (الأكلات العراقيّة)!

العيد وسياسات التغريب عن الأوطان!