الوحش الخيالي في العراق الجديد




حينما كتب الفيلسوف الانكليزي (توماس هوبز) كتابه الوحش الخيالي، عام (1651)، أراد أن يصور الدولة بهذه اللفظة الغريبة بوصفها وحشاً. والدولة عموماً، في نظر هوبز، هي من ابتداع الإنسان واختراعه، ومع ذلك فقد تعدت قوة مصورها، وأن فن الإنسان يستطيع أن يصنع حيواناً صناعياً.

الكائن الخيالي الهائل (leviathan»»، وهو لفظ ورد في التوراة على انه من القوة بحيث لا تدانيه قوة ما على وجه الأرض، وهو الذي سماه هوبز «الدولة»، «commonwealth»، الذي هو ( أي الكائن الخيالي، أو الدولة)، من إبداع الفن الإنساني لا يعدوا أن يكون إنساناً صناعياً، وإن كان أعظم حجماً، وأشد بأساً من الإنسان الطبيعي، وابتدعه ليحميه ويؤمنه.

إن السيادة في هذا الإنسان الصناعي هي بمثابة الروح الصناعية، فهي التي تمنح الحياة والحركة لجسده كله، والثواب والعقاب أعصابه، وثروات الأفراد قوته، وسلام الشعب وظيفته، والإنصاف والقوانين هي بمثابة العقل والإرادة، والاتحاد والوئام صحته، والفتنة مرضه.

هذا الفيلسوف الانكليزي عاش في زمن مضطرب الأحوال، مشابه إلى حد معين الأوضاع الجارية في عراق ما بعد عام 2003، وسأحاول هنا تطبيق فلسفته السياسية، أو المدنية، على « الوحش العراقي الحالي»، اقصد « الدولة العراقية»، ما بعد عام 2003، بموضوعية وحيادية تامة.

السيادة التي ذكرها « هوبز» هي روح الدولة، وهي غير موجودة في «الدولة العراقية» الحالية؛ لأن القرار العراقي بيد الأمريكان وبيد قوى إقليمية ظاهرة على الأرض، وهذا الأمر يعرفه حتى أطفال العراق، ناهيك عن الساسة أنفسهم.

أما الثواب والعقاب اللذان هما أعصاب الدولة، فهي- مع الأسف الشديد - تُحكم بالمزاجية، وبالروح الحزبية الضيقة، وبالطائفية المقيتة.

ومفهوم الثروات التي هي قوة الدولة، هذا المفهوم ولد ميتاً في العراق الحالي، فالفساد المستشري في جسد «الدولة العراقية» - بشهادة الأمريكان ومعاهدهم المختصة - لا يمكن أن يدعم كون الثروات قوة للعراق؛ لأن البلاد التي ينفق فيها - على سبيل المثال - أكثر من (27) مليار دولار على قطاع الكهرباء فقط، ولم تنجح الحكومة لحد الآن في التخلص من هذه المعضلة، وبالتالي لا نعرف كيف يمكن تنظيم الثروات في بلاد هذا مستوى الفساد فيها!

هوبز يؤكد أن سلام الشعب هو وظيفة الدولة، والساسة في العراق اليوم فقدوا السيطرة على الملف الأمني، والدليل التفجيرات التي وقعت يوم 23/2/2012، التي ضربت أكثر من سبع محافظات في الشمال والجنوب والوسط، بالإضافة إلى العاصمة الحبيبة بغداد، وسقط نتيجة لذلك أكثر من (500) شخص بين قتيل وجريح، والمتهم – كالعادة - هم الإرهابيون والظلاميون!

وهو ما دفع القائمة العراقية، الشريك الأبرز في العملية السياسية، للمطالبة باستقالة رئيس الحكومة نوري المالكي، متهمة الحكومة، بعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد وحفظ الأمن.

أما الإنصاف والقوانين التي هي بمثابة العقل والإرادة للدولة، بحسب فلسفة» هوبز»، فإنني سأكتفي هنا بذكر التقرير الأخير لصحيفة الغارديان البريطانية يوم 16/1/2012، الذي أظهر المديات الحقيقية لانعدام العدالة والقوانين في السجون الحكومية، وكيف يتم الإفراج عن الذين تتم تبرئتهم في الحاكم مقابل ستة الآف دولار.

الغارديان جمعت جملة من الأدلة، تبين بأن( ضباط الأمن في «الدولة العراقية» يعتقلون الناس على خلفية تهم ملفقة، ثم يقومون بتعذيبهم ويطلبون رشاوى من عوائلهم؛ من أجل إطلاق سراحهم). وأن (عدوى الفساد في العراق خلقت مهنة جديدة يشتري فيها ضباط الأمن سلطاتهم في مناطق معينة من خلال رشوة بعض السياسيين، حيث يدفع الضباط الصغار لمن هم أعلى منهم رتبة راتباً شهرياً، والكل يحصل على حصته من المبالغ التي تدفعها عوائل المعتقلين)!

أما الاتحاد الذي هو صحة الدولة، ونقيضه الفتنة التي هي مرضها، فإننا نعول في هذا الأمر على وعي العراقيين، الذين فوتوا عشرات الفرص الشريرة التي أشعلها بعض رموز العمل السياسي، وذلك لإشعال نار الفتنة بين العراقيين!

هذا هو حال العراق، أو «الدولة العراقية»، فهل يَصْدُق على العراق بعد عام 2003، مفهوم الدولة؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العراقيّون وكِذْبَات نيسان والتناحر المُرتقب!

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!