"إرهابي" يحلم بزيارة قبر أمه



بعد عام 2003، تغير المشهد العراقي، رأساً على عقب، وانقلبت الموازيين واختلت بوصلة الحياة: خراب عم البلاد من طائرات ألقت سمومها، 
وأحقادها على أجساد شعبنا الأعزل، ولم يسلم من تلك القنابل لا الأحياء، ولا حتى الأموات في مقابرهم، وانهارت حياة العراقيين بسبب طائرات الحقد "الديمقراطي".

وبعيدا عن السياسة وهمومها، وتناقضاتها، وكذبها، وزيفها، بل وحتى صدقها عند القلة القليلة من الساسة، تأخذك أحيانا أحلام اليقظة إلى الماضي القريب الجميل؛ لترسم بسمة يتيمة على شفاهنا التي هجرت الابتسامة منذ سنوات، هناك في بلدي الحبيب العراق حيث أهلي، وأحبتي، وأجمل أيام حياتي، والتي أرغمنا على هجرها، ولم نعد نراها إلا من خلال شاشات التلفاز، أو الانترنيت، في زمن يدعي أهله الحضارة والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، بل وحتى احترام حقوق الحيوان.

كل هذه الذكريات اغتالتها رصاصة الاحتلال الأمريكي - البريطاني الذي جاء مبشراً بحياة رغيدة، وحرية فريدة، وحريات لا مثيل لها في الشرق الأوسط، وكانت المحصلة أن هذا الاحتلال قد دمر العمران، والبنى التحتية والفوقية، وقتل الملايين، وتسبب في إعاقة الملايين، وهجر الملايين في أرجاء المعمورة، وخرب النفوس الصافية، إلا من رحم ربي، وكل هذه الكوارث وقعت في بلاد كان أهلها يرضون بالقليل، وينامون على الحصير، ويتقاسمون لقمة العيش بكل طيب نفس، وصفاء سريرة.

حينما جاء المحتل الحاقد اللعين بمخططاته الشريرة، ومعه الأشرار الذين يدعون أنهم جاؤوا لخلاص العراق والعراقيين، حينها فتحت في أفكارنا وعقولنا صفحة مظلمة بائسة من تاريخ بلادنا الحبيبة التي عرفت المآسي والآهات على مر العصور.

الواقع الجديد في العراق مليء بالتناقضات التي لا يتحملها العقل، في بلد الديمقراطية الجديدة، هنالك قتل باسم القانون، والمجرم رجل يطبق القانون، وينفذ جرائمه باسم القانون، أما المدافع عن بلده وعرضه، والرافض للاحتلال، والناقم على ما حل بالبلاد من خراب حقيقي ومعنوي، فهو إرهابي مصيره إما الاغتيال، أو التصفية، أو التغييب والاعتقال.

هذه التناقضات قادت لهجرة الملايين اضطرارا؛ للحفاظ على أرواحهم؛ وأعراضهم من يد البطش الحكومي الطائفي "القانوني".

وبالنتيجة وجدوا أنفسهم في مدن لم يألفوها من قبل، وعاشوا مع وجوه لم يعرفوها، وتغيرت بين ليلة وضحاها أنماط حياتهم البسيطة، وتغيرت سلوكياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهم على الرغم من ذلك صابرون محتسبون، وكل ذلك من اجل عين العراق الحبيب.

في البعد عن الأهل تتلاشى الآمال الكبيرة، وتصبح بديهيات الحياة البسيطة أمنيات عزيزة، وبعيدة المنال، صرنا نحلم برغيف خبز من يد أمهاتنا، أو كلمة "هلة" من قلب عزيز من أعزائنا في العراق، أو نحلم أحيانا بما يظنها البعض أنها رومانسية مفرطة، حيث إننا نحلم أحيانا ولو بزيارة مقابر أهلنا علنا نجد نفحة من الحب والحنان.

أتمنى من كل قلبي أن أزور قبر أمي ، حتى لو كانت تلك الزيارة زيارة عابرة، خمس سنوات مضت بعيدا عن الأهل والأحباب، لا اطمع الآن إلا بزيارة لقبر أمي، نعم قبر أمي؛ أريد أن اجلس بجوار قبرها، أتخيل نفسي متكأ على كتفها، اقبل يديها وقدميها، وأقول لها سامحيني يا أمي، فوالله لم أزرك رغما عني، فلقد صرت إرهابيا، نعم يا أمي أنا الآن من "الإرهابيين"؛ لأنني احبك وأحب وطني، ودفعت ضريبة هذا الحب بالتهجير من بلدي، نعم يا أمي أنت لا تعرفين هذه الحقائق، لقد حاولوا اغتيال حبي لك، ولكنهم فشلوا.

أمي عن ماذا أحدثك، عن بلدي الذي لم أزره منذ أكثر من خمس سنوات، أم عن بيتي الذي نسيت أركانه، أم عن مسجد الحي الذي أتمنى أن أصلي فيه فرضا واحدا ثم أموت؟!!

الله الله كل هذه الأماني البسيطة غدت بعيدة المنال بالنسبة لنا في ظل واقع مرير انقلبت فيه الموازين، نعم يا أمي هذه الممارسات الحياتية البسيطة التي يمارسها الناس في أرجاء المعمورة هي أحلام بعيدة المنال بالنسبة لي، ولا اعرف متى تتحقق؟ 

ماذا أحدثك يا أمي، والله لقد ملئت نفوسنا هما وحزنا على فراق أهلنا، بل ونسينا حتى ملامح وجوههم وصورهم، هي مأساة بمعنى هذه الكلمة، وهو إعدام وجداني، لا يختلف عن الإعدام المادي الذي ينفذ بحق الأخيار في بلدان الظلم، وبحق الأشرار في بلدان العدالة.

واعلمي يا أمي أن هذا هو حال الملايين من أمثالي الذين هدمت أجسادهم الغربة والشوق والحنين للوطن والأهل ودجلة والفرات.
سلام الله عليك يا عراق،
سلام الله عليك يا أمي،
سلام الله على أهلي وأخوتي وأصدقائي أينما كانوا،
سلام الله على العراقيين من زاخو حتى الفاو،
سلام الله على دجلة والفرات،
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب
والى الملتقى بإذن الله على ارض العراق الطيب الحبيب، اللهم آمين.




تعليقات

  1. الله يرحمها ويرحم امهاتنا واباءنا ويحسن اليهم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى