اعترافات اضطرارية أمام الإعلام



أكبر درجات الخداع والظلم أن يتحدث الإنسان، وخصوصاً الإنسان المسؤول المؤتمن، عن المبادئ والقيم والأخلاق والعدل والرحمة، وعن الإرهاب والإرهابيين، والكلام في الجزئية الأخيرة صار موضة نسمعها في كل يوم، بينما يمارس، هذا المسؤول، الإرهاب بكل أنواعه، ودون رادع من ضمير، أو قانون!

وفي العراق يطلّ علينا يومياً، ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة، مسؤول حكومي من داخل المنطقة الخضراء ليعلن إلقاء القبض على مجموعة من «الإرهابيين»، وبعد ذلك تعرض اعترافات هؤلاء الأبرياء المغلوب على أمرهم أمام وسائل الإعلام ليعترفوا: «أنّهم قتلة ومزورون وإرهابيون»، وأيضاً يعترفون بكل عملية سُجِّلت ضد مجهول ضمن مسلسل التحقيقات الوهمية المتعلقة بالجرائم اليومية في «العراق الجديد»!

ونحن في بلاد القهرين تعوّدنا على مهازل الاعترافات المفبركة، ولن ننسَ قصة ذلك الرجل المظلوم «إمام أحد المساجد»، الذي اعترف في التلفزيون الحكومي بممارسة الفاحشة في المسجد، وذلك بعد أن أحضر الظلمة زوجته أمامه، وإن لم يعترف بما يريدون فإنّهم سيعتدون على زوجته، فاضطرّ المسكين للاعتراف بجرم لم يقترفه، وكل ذلك من أجل إسقاطه بأعين الناس، باعتباره إمام مسجد.

أساليب عرض الاعترافات الموهومة على الجمهور عبر وسائل الاعلام ستكون سبباً للفرقة بين أبناء الشعب؛ لأن المعترفين الأبرياء هم من مكوِّن مغاير لمكوِّن الحكومة، وبالتالي فإنّ الحكومة تريد اللعب على وتر الطائفية، في وقت تدّعي فيه أنّها حريصة على الوحدة الوطنية، فأيّ تناقضات هذه التي يرتكبها ساسة المنطقة الخضراء؟! وهذا قمة السقوط السياسي والأخلاقي!

تصفية الحسابات السياسية عبر ملاحقة أنصار هذا الطرف أو ذاك هي سياسة متّبعة في العراق اليوم، وهي قائمة على قدم وساق، وفي هذا الباب أعلن قائد شرطة بغداد اللواء الركن (عادل دحام) يوم 27/5/2012، عن «إلقاء القبض على (16) إرهابياً مرتبطون بعضو مجلس المحافظة عن القائمة العراقية (ليث مصطفى الدليمي)، وأنّ المتهمين اعترفوا بقيامهم بأعمال إرهابية في منطقة الكاظمية والحرية والتاجي والشعب، وأنّ العملية الأبرز هي استهداف رئيس مجلس محافظة بغداد (كامل الزيدي) بواسطة سيارة مفخخة في منطقة الصالحية».

وفي ذات اليوم تم عرض اعترافات المتهمين الـ(16) أمام جمع من وكالات الأنباء العراقية والعربية، والمفاجأة بالنسبة لحكومة المالكي كانت بوقوف عضو مجلس محافظة بغداد المعتقل (ليث الدليمي) أمام وسائل الإعلام ليصرخ ويؤكّد أنّ «عملية اعتقاله مفبركة»، وبدأ يتّهم وزارة الداخلية بتلفيق التهم إليه لاعتقاله، وشبّهها بالمسرحية، وبعدها تم إخراج الدليمي إلى خارج القاعة الخاصة بعرض الاعترافات.

الحادثة تسببت بمجموعة من ردود الأفعال في داخل العراق وخارجه، وغالبية الجهات التي رفضت هذه التصرفات اللاأخلاقية مع المعتقلين، أكّدت أنّ ليث يمثّل جزءاً بسيطاً من حجم الكارثة التي تدور خلف الأسوار والأبواب المغلقة في المعتقلات!

فكم من أمثال ليث الدليمي هم الآن قابعون في السجون السرية والعلنية، مِن الذين أُدينوا بسبب اعترافاتهم الاضطرارية، سواء أمام وسائل الإعلام، أم في دهاليز المعتقلات التي لا يعرف السبيل إليها إلاّ القائمون عليها؟!

كيف يحصل مثل هذا الظلم في العراق، إنّها حقاً مصيبة لا يمكن السكوت عليها، وهذا الظلم ينبغي أن يتوقّف، والشعوب الحيّة هي التي لا تصمت على أفعال الظلمة، فمتى سيعلن العراقيون وقوفهم بوجه «الظلم الديمقراطي»؟!

وأعجبتني أبياتاً للدكتور عبد الرحمن الأهدل، بخصوص الظلم، قال فيها:

أَلاَ إِنَّ يَـوْمًـا لِلطُّـغَـاةِ لَمُقْبِـلٌ                    وَلاَ سِيَّمَـا لِلظَّـالِـمِ الْمُتَوَغِّـلِ

وَيَوْمَ دَعَا الْمَظْلُوْمُ دَعْـوَةَ صَـادِقٍ              عَلَى ظَالِـمٍ بَـاغٍ بِدَمْـعِ تَـذَلُّلِ

وَظَـلَّ بَنُـوهُ يَـرْفَعُـونَ أَكُفَّهُـمْ                بِآمِيْنَ عَلَّ عَمَـى الْغِوَايَـةِ يَنْجَلِي

وَأُمٌّ بَكَتْ طِفْلاً وَقَـدْ هَـدَّ عَظْمَـهُ              جَبَـابِـرَةٌ مِـنْ دُوْنِ أَيِّ تَمَهُّـلِ

تَقُولُ وَقَـدْ ذَابَ الْفُـؤَادُ بِحَسْـرَةٍ                قَتَلْتُمْ رَضِيْعًـا وَانْثَنَيْتُـمْ كَبُـزَّلِ

فَقُلْتُ لَهَـا صَبْـرًا فَرَبُّكِ مُنْصِـفٌ             فَكَمْ هَدَّ مِنْ طَاغٍ وَكَمْ ذَلَّ مُعْتَلِي

فَمِثْلِكِ ثَكْلَـى فِي الشُّعُوبِ كَثِيْـرَةٌ           وَكَابْنِكِ قَتَلَى بَـلْ شَبَـابٍ وَكُهَّلِ

فَقَـالَتْ يَمِيْـنُ اللهِ إِنَّـكَ صَـادِقٌ              وَنُصْحُكَ مِثْـلُ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ

اللهم هوّن علينا مصيبتنا، وأعنّا على الخلاص من هؤلاء القتلة الأشرار.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

السفارة البريطانيّة ببغداد... ودبلوماسيّة (الأكلات العراقيّة)!

العيد وسياسات التغريب عن الأوطان!