وأخيراً زرت بغداد!





بعد سنوات من الغربة والحل والترحال في بلدان قريبة وبعيدة وصلت طائرة الخطوط الجوية العراقية المزينة بذلك الثوب الأخضر المطرز بطائر السنوسو الجميل لبغداد المحروسة، في رحلة لم أكن أعرف متى تنتهي، لأن قلبي هرب مني محلقاً أمامي قبل جسدي، وكأنني في مضمار سباق بين قلبي وتلك الطائرة المميزة بأناقتها وخدماتها.
وبعد رحلة تتسابق فيها الذكريات والأمنيات حطت الطائرة بمطار بغداد الدولي، الذي لبس ثوباً مُزَرْكَشاً، وكأن فناناً مميزاً طرزه على ذلك الطول الفتان لذلك الصرح الحضاري الكبير.
وبعد إجراءات بسيطة قال لي موظف الجوازات: أهلا وسهلا بك سيدي ببلدك العراق، فقلت له: أنا مشتاق لكل شيء في وطني، فرد علي مبتسماً: والعراق مشتاق لجميع أبنائه، حللت أهلاً ووطئت سهلاً.
وبباب المطار كانت الباصات الأنيقة تنتظر الركاب لنقلهم لأغلب أحياء بغداد الكبيرة، وعبر نافذة الباص المكيف والهادئ، كنت أتابع كل صغيرة وكبيرة في شوارع المدينة.
وأخيراً التقيت بحبيبتي، بغداد! يا الله كم هي جميلة سيدتي! ما أروع تنظيم شوارعها، وتشجيرها، وتنسيقها. كل شيء رسم بعناية، وكأنني في مدينة زيّنت لتنشر الراحة والطمأنينة في نفوس أهلها بجميع الأوقات.
وحينما وصلت لحينا البَهيّ آثرت أن أسير مشياً على الأقدام لبيت أهلي حتى أُشبع خلايا فكري وحسرات روحي التي تئن على فراق الوطن منذ تموز(يوليو) 2005.
مررت بذلك الشارع الأنيق المطرز بأشجار الياسمين، ونظرت لبيوت جيراننا من الشيعة والسنة والكرد والنصارى، وتذكرت تلك المرأة النصرانية التي كانت تفرح بقدومي لزيارة أهلي وتحتضنني لأنني كنت صديقاً لولدها الذي فقد في الحرب العراقية الإيرانية، وكأنها تجد فيّ بعض ذكريات ابنها الفقيد.
وحينما وصلت لبيت أهلي وهم لا يعلمون بوصولي- ولا أدري هل طرقت الباب الخارجي، أم ولجت مباشرة للباب الداخلي للصالة- وقبل أن أطرق الباب وقفت قليلاً وبلحظات عجيبة وخاطفة مرّت بمخيلتي سنوات العمر الماضية بحلوها ومرها، هنا جلسنا، هنا ضحكنا، هنا اختلفنا منْ الذي سجل الهدف، وهنا تناولنا الشاي العراقي، وهنا وهنا وهنا. ذكريات جميلة رغم كل الأوجاع!
طرقت الباب، وكانت المفاجأة المدهشة لأهلي، وبعد أن استقبلني أخوتي بحرارة تلك السنوات الطويلة جلسنا قليلاً وتسامرنا، ضحكنا وبكينا من الفرح، وبعد ساعات من الوصول جاء جميع أحبابي من أخوتي وأخواتي، وغالبية أقربائي وأصدقائي للسلام عليّ.
وفي المساء قلت لهم اتركوني مع ذكرياتي لعلي أشبع اشتياقَ وفضولَ تلك السنوات المريرة، وفي لحظتها تذكرت غرفة أمي، التي رحلت في لحظة وهي كالقمر في زهوه وجماله، وجلست حيث كنا نجلس معاً، ونأكل من يدها أبسط طعام وألذه، ولكنه رغم بساطته ما زال عالقاً في الروح والفكر، وتذكرت ذلك الشاي العراقي الثقيل الذي لم نذق مثله في محطات غربتنا!
في اليوم التالي قالوا فلان يدعوك على الغداء، وفلان يدعوك على العشاء، وفلان وفلان، قلت لهم: لا، إنه يوم أمي، سأزور قبرها، ذلك العش الذي يضم جسدها الكريم.
وصلت لقبر أمي بدلالة أحد أخوتي، وجلست عند رأسها، سلمت عليها، ودعوت لها، وقلت لها: يا أُمّي: ثقي بالله ما هجرتك مخيراً، وإنما فارقتك مجبراً، وبالأمس وصلت، واليوم لم أزر أحداً قبلك.
جلست عند رأسها وأغمضت عينيّ، وكأنني أُقبل يدها وجبينها، وأقول لها: سامحيني يا أُمّي فما أملك من أمر الفراق شيئاً، كنتِ رفيقة روحي في أوقات الألم بمقابر الغربة، فأنت لست وحدك في المقابر يا أمّي، فالغرباء لهم مقابرهم التي ربما لا تشبه هذه المقابر في بعض الجوانب.
وبعدها بكيت وبكيت، وحينما تعبت من البكاء غفوت، وحينما صحوت سلمت عليها ثانية ورحلت.
في شوارع حينا الأنيق تذكرت صور أحبابي الذين فارقتهم، ووقفت أمام منازلهم وكأنني جسد بلا روح، ولا أدري كيف افترقنا؟
حاولت أن استرجع ذكرياتي التي قطعت أوتار قلبي فوجدتها تهرب أمامي واحدة تلو الأخرى.
في لحظتها شعرت بحسرة تمزق الروح والجسد، ولا أدري ماذا أفعل. وإلى أين أتجه؟ وفجأة سمعت منبه الساعة يوقظني!
يا إلهي.. إنه حلم، لقد كنتُ أحلم. ورغم ذلك ما فتئت لذة ذلك الحلم البعيد تغمر روحي وكياني!
ليت بعض أحلامنا تتحقق!
كم هي مؤلمة أحلام الغربة؟!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى