البحث عن الأوكسجين!



الإعلام العراقي في مرحلة ما قبل الاحتلال الأميركي كان إعلاماً رسمياً، وبعد مرحلة الاحتلال الأميركي فوجئنا بمئات القنوات الفضائية والإذاعات والصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، وانفتحت علينا دنيا الأقمار الصناعية من كافة أركان الكون.
الانفجار الإعلامي كان على مصراعيه، وكان مفتوحاً في كل الاتجاهات عدا تلك التي تنتقد الأوضاع في "العراق الجديد"، ولهذا وجدنا واقعاً إعلامياً مغلفاً بكذبة الديمقراطية ومليئاً بالإجرام، ولقد مضى في قافلة شهداء الإعلام المئات من الأحرار الوطنيين الذين أبوا أن يروا الظلم والضيم من قوات الاحتلال والحكومات المتعاقبة يقع على أبناء شعبهم وهم يتفرجون، وآثروا الوقوف بوجه الظلام رغم أن الثمن هو الاغتيال والاعتقال والتغيب في زمن الديمقراطية المزيفة!
سأتغافل هنا عن نصوص الدستور العراقي الحافظة للحريات، أو الداعية لحرية الصحافة والإعلام، وسأغض الطرف عن التصريحات المتنوعة لزعماء البلد التي يؤكدون فيها على حرية الإعلام لأن الواقع وصل لمراحل مؤلمة، وسنحاول التطرق لإحصائيات مرعبة من منظمات مستقلة.
إن صور الاعتداءات شبه اليومية على الصحفيين والإعلاميين والتهديدات التي تصلهم بأسماء وهمية من هنا، أو هناك كلها تشير إلى عدم نضوج فكرة الحرية في العراق اليوم، وتؤكد أن قوة السلاح والإرهاب المدعوم ما زالت هي الحاكم، أو القادرة على ترويج ما تشاء لمن تشاء.
وقبل أيام وصلني تهديد آخر من "حساب لا أعرفه" على الإيميل، يدعوني فيه "للبقاء خارج العراق"، ويؤكد فيه أنه "لا مكان لي في الوطن"، فضلاً عن عبارات غير لائقة للنشر آثرت أن لا أذكرها!
وبالمناسبة هذا ليس التهديد الأول، وربما هو التهديد السابع، أو الثامن كما أذكر، وهي جميعها لا تعنيني ولا تُخيفني، لكنني ذكرتها من باب مناسبتها لموضوع المقال لا أكثر ولا اقل.
ولبيان بعض صور الانتهاكات الإعلامية ننقل جزءاً من نتائج الأبحاث التي أجراها فريق مرصد الحريات الصحفية (JFO) للفترة ما بين 3 أيار (مايو) 2016 إلى 3 أيار (مايو) 2017 وتضمنت "عدداً كبيراً من الخروقات الحكومية ضد العاملين في مجال الإعلام في العراق"، وأظهرت "عدم جديّة بعض المؤسسات الإعلامية في الحفاظ على سلامة كوادرها التي تعمل على تغطية الحرب"، علاوة على تسجيلها "تهديدات جديدة تلاحق الصحفيين بالأعراف العشائرية من قبل بعض القبائل، وعملية تضييق رهيبة تقوم بها الحكومات المحلية ضد الصحفيين والمدونين".
وسجّل المرصد "مقتل وإصابة 55 صحفياً ومساعداً إعلامياً".
وآخر صور الاعتداء على الصحفيين وقعت يوم الجمعة الماضي ضد الصحفي مناف الموسوي، والذي أكد بحسب ما أعلن المرصد العراقي للحريات الصحفية، "كنت ماراً بسيارتي برفقة ولدي في شارع السعدون ببغداد، ووقفت لشراء بعض الأغراض وكان هنالك ثلاثة أشخاص بزي مدني طلبوا من ولدي تحريك سيارتنا من المكان على الفور، وبدأوا بالصراخ، وضربوا ولدي، وتصورت أنهم عصابة تحاول سرقة السيارة، أو اختطافنا، وعندما تدخلت لمنعهم ردوا عليّ بكلمات نابية، واحتجزوني ونقلنا لمركز شرطة السعدون وهناك عرفت أنهم من مكافحة الجرائم. أحدهم قال لولدي: إنني شيخ عشيرة وخلفي 700 رجل! ولا أعلم هل هو شيخ عشيرة، أم رجل أمن، وأيهما الأقوى الدولة، أم العشيرة؟!".
استمرار انتهاكات بعض عناصر قوى الأمن ضد عموم المواطنين، وضد الصحفيين بوجه خاص - باعتبار أنهم صوت الوطن والمواطن- يثبت انحراف المسار العام للحريات في البلد باتجاه مفهوم القوة غير المنضبطة، وانتشار فوضى العشائرية غير الملتزمة بالقانون والأعراف، وهذا الحال لا يُبشر بخير، ويزيد من صور دعم القوى العشوائية الساعية لترهيب دعاة الحرية والرأي من الصحفيين والإعلاميين والمثقفين.
حرية الصحافة والإعلام تماماً كالأوكسجين للكائنات الحية؛ فبدونه لا يمكن أن يوجد أي عمل صحفي، أو إعلامي مثمر وبناء، وحقيقي وغير متلون، أو متملق. والحرية الإعلامية والصحفية كائن حي ينبغي أن يُمد بعوامل الحياة ومنها الحرية، وإلا فهي مجرد "خدعة" جديدة لا وجود لها على أرض الواقع!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى