الوطنية العراقية في الميزان



كثيرة هي الثياب المزيفة التي يتدثّر بها أعداء الإنسانية في كل مكان على وجه الكرة الأرضية، وربما تكون هذه الثياب البراقة الفارغة مطرزة بشعارات دينية، أو قومية، أو عرقية، أو وطنية، وكل هذه الثياب الخداعة الهدف من ورائها تحقيق مصالح شخصية وفئوية وحزبية وطائفية ضيقة.
قبل أيام، وبينما كنت أتابع القناة الرسمية الحكومية العراقية، توقفت كثيراً عند تصريحات أحد قيادات العمل السياسي الجاري في العراق «الجديد» اليوم، ولا أريد أن أذكر اسمه وصفته؛ لأن الكلام لا ينطبق عليه وحده، وإنّما هو نموذج لمئات القيادات الوطنية المزيفة.
تكلّم الرجل عن الانتماء للوطن وصدق التمسك بحبه، وعن أعداء العراق من الإرهابيين الرافضين للعملية الديمقراطية الحالية، وغيرها من الشعارات المنمّقة والعبارات المختارة بدقة وعناية فائقة، وكلامه يصدق عليه المثل الإنكليزي القائل (العبرة بالأعمال، وليست بالأقوال).
الوطنية وحب العراق، هي القصيدة التي يتغنّى بها الجميع، والانتماء الحقيقي للبلاد هو شعار الجميع، والكل يدّعي أنّه يحب الأرض، وحريص على الأنفس والأعراض والأموال العامة، لكن منْ هو الوطني الصادق المنتمي حقيقة لتربة الرافدين؟!
الوطنية هي مجموعة من القيم والمبادئ التي لا تقبل المساومة، ولا البيع في سوق النخاسة، وهي تعني الاستعداد للتضحية بالنفس والحرية من أجل التحرير والخلاص من الاحتلال وآثاره.
الوطنية هي التضحية بالمال وبالمناصب، إذا كان الحصول عليهما يزعزع روح الانتماء للوطن، وهي الوقوف بوجه كل من يعمل ضد أبناء الشعب ومصالحهم.
الوطني الأصيل هو الذي لا يميّز بين المواطنين على أساس العرق والدين والمذهب والطائفة، وهو الذي يرفض أن يضع يده بيد أعداء العراق، ويأبى التآمر على بلاده وأهله، والوطن الذي تربّى فيه.
ومع الأسف الشديد حينما نعود إلى الوراء قليلا، وتحديداً منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الشهر الرابع من عام 2003، تاريخ احتلال بغداد، نجد أنّ أغلب دعاة الوطنية من الإسلاميين والعلمانيين، من رجال العملية السياسية الحالية في العراق، قد وضعوا أيديهم بيد الاحتلال الأمريكي، وتآمروا على العراق وأهله، والمحصلة ملايين الشهداء والجرحى والمعاقين والمشردين.
قبل أكثر من شهرين جمعني لقاء مع خمسة من أعضاء البرلمان الحالي من الإسلاميين وغيرهم، وذلك خلال دعوة عشاء دُعيت لها، ولا أعلم أنّ بعض المدعوين هم من رجال العملية السياسية، والمفاجئ والغريب في كلمات هؤلاء الساسة أنّهم تحدّثوا عن حب العراق بشكل يُوهم الذين لا يعرفونهم أنّهم يعملون حقاً من أجل العراق، وفي ختام الجلسة كانت لي مداخلة بسيطة تحدّثتُ فيها عن الإسلام والسياسة، وأكّدتُ على جملة من التساؤلات منها: أنّه بأيّ دين تم الاتفاق مع القوات الأمريكية الهمجية لاحتلال العراق؟! وبأيّ دين تم الاتفاق مع هذه القوات الإجرامية على قتل ملايين الأبرياء بصواريخها الإجرامية؟!
الوطنية المزيفة في العراق اليوم، هي قيادة عصابات إجرامية لتنفيذ عمليات اغتيالات منظمة، والسطو على المصارف ومحال الصاغة، وابتزاز المعتقلين وعوائلهم، وقيادة عصابات لاختطاف الأطفال، والاتجار بالأعضاء البشرية، والاحتكار لقوت الشعب، كل هذه الصور السوداوية هي الوطنية في مفهوم الكثير من قادة العراق اليوم.
الوطنية هي ثوابت دينية وإنسانية وأخلاقية، قابلة للتطبيق بدون كذب وخداع، ثوابت محرّمة لسفك الدماء، وهي اليد العاملة من أجل البناء والإعمار، وهي الصوت الهادر المدوي بوجه الإرهاب والإرهابيين.
الوطنية هي كل ما ذكرت من مفاهيم وقيم نبيلة، هي الحب والتضحية والتسامي على الجراح، وتناسي الأحقاد والضغائن، وهي الوقوف مع الحق ضد الباطل، ومع الضعيف ضد القوي، ومع الأمل ضد اليأس والقنوط.
عذراً يا عراق فأغلب هؤلاء لا ينتمون إليك، ونحن بريئون من زيف محبتهم لك، ومن أعمالهم الإرهابية التي طالت الصغير والكبير، الرجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، والعربي والكردي، باسم القانون وتحت غطاء مكافحة الإرهاب والإرهابيين.
عذراً يا عراق، عذراً.
فحبك جدير بأن يصان، وأن لا تدنّسه الخيانة والعمالة والارتماء بأحضان الأعداء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى