الى مسيحيي العراق مع التحية





تقول المستشرقة الألمانية ( زيغريد هونكه): “العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون، والزرادشتية، واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها سُمح لهم جميعا - دون أي عائق يمنعهم- بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم، وأديرتهم، وكهنتهم، وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال، ومتى؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ، وبعد فظائع الأسبان، واضطهاد اليهود. إن السادة والحكام المسلمين الجدد لم يزجوا أنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية. فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب: “إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف”.فهذه هي حقيقة العرب، ودينهم الإسلامي الحنيف.
أروع ما يميز الخريطة الاجتماعية العراقية، هي تلك الفسيفساء الزاهية الألوان من جميع المكونات، فهي تضم في ثناياها كل المتحابين من العرب والأكراد، والسنة، والشيعة، والمسيحيين، والمسلمين، واليزيدين، والصابئة، وغيرهم، صورة حقيقة معاشة، وهي ليست ضرباً من الخيال، بل هي واقع عشناه لسنوات وسنوات، وكما يقال اسأل مجرب ولا تسأل حكيم.
العراقيون تعايشوا على مر السنين، أخوة أحباء تملا حياتهم الطيبة، والود، والوفاء، والتعامل الحسن، ولا أنسى كيف أن جارتنا المسيحية العجوز كانت تنتظرني في زيارتي الأسبوعية لأهلي في بغداد، وكيف أنها كانت تستقبلني في الشارع، في منطقتنا الجميلة في بغداد الجديدة، قبل أمي وأهلي، وكانوا يشاركوننا المسرات، والأفراح، والأتراح.
ودارت الأيام، ولعبت السياسة لعبتها الخبيثة، وحاولوا دعاة الديمقراطية والحرية والمساواة أن يُفتتوا هذه اللحمة بين العراقيين، البداية كانت بتفجير قبة الإمامين في سامراء، وحاولوا إشعالها حرباً طائفياً، إلا أن عناية الباري عز وجل، أوقفت هذه الشرارة التي حصدت أرواح المئات من الطرفين، وانطفأت بخيبة من أشعلوها، وكانوا يريدونها حرباً أهلية مقيتة تحرق الأخضر واليابس.
وحينما فشلت تلك المؤامرة، التفوا من جديد على مكون مهم ومحترم، ويعرفهم العراقيون بأنهم أهل معشر ومحبة، وسلام، ولا يعرفون الخيانة، وهم اقرب الناس للمسلمين، إلا وهم إخواننا من المسيحيين.
والمسيحيون لمن لا يعرفهم، يصل تعدادهم في العراق إلى أكثر من مليون نسمة، تربطهم بالمسلمين علاقات تجارية واجتماعية كبيرة، وهنالك نسبة من الرجال المسلمين تزوجوا بمسيحيات، وكونوا عائلات سعيدة ومهذبة.
بعد عام 2003، استهدف أبناء الديانة المسيحية من قبل عصابات إجرامية، هدفها إشعال الفتنة بين الطوائف العراقية، فقتلوا الأبرياء في أماكن عملهم، وفجروا الكنائس، والبيوت، واغتالوا واختطفوا، وكل المعاناة التي وقعت على الطوائف العراقية أصابت المسيحيين، وكأن العدو الحاقد كان منصفاً في توزيع إجرامه على جميع الأطياف والأديان والمذاهب.
والنتيجة هي تهجير مئات الآلاف من المسحيين، واستهداف (57) من بين نحو (170) كنيسة ودار عبادة، فيما أدت هذه الهجمات إلى مقتل (905) مسيحيين، وإصابة أكثر من ستة آلاف بجروح.
وفي هذه الأيام احتفل مسيحيو العراق بعيد الميلاد، وسط دعوات لإحلال السلام في بلاد تنخرها الخروقات الأمنية المتكررة، وقال أسقف الكلدان في بغداد (شليمون وردوني) إن “المؤمنين المسيحيين لديهم مخاوف ككل العراقيين، هم يشعرون بأن السلام مفقود، وكذلك الأمن، لذا يتوجهون إلى حيث يستطيعون العيش بسلام، ونحن لا نوافق على هجرتهم من العراق، ولا نريدهم أن يغادروا، لكنهم يقولون لنا: إذا قررنا عدم الذهاب، فهل تضمنون لنا سلامتنا وعملنا ومستقبلنا؟”.
ملخص الكلام في هذه الفتنة النتنة أن من يستهدف المسيحيين ليس من العراقيين، ولا يعرف تاريخهم العريق، ونقول لإخوتنا المسيحيين، العراق لنا ولكم، يجمعنا - كما عهدناكم وعهدتمونا- على الحلوة والمرة، نتقاسم رغيف الخبز بيننا إلى أن تنجلي هذه الغمة، وأظن أن هذا الانفراج قريب بقوة الله.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى