حب في زمن الغربة والفقر




ضريبة الغربة، أو الموت البطيء كما أحب أن أُسمي الابتعاد عن الوطن والأهل، هي ضريبة مرتفعة الثمن لا توازيها ضريبة المبيعات ولا ضريبة كافة أنواع التجارات؛ لأنها -ببساطة- تتعلق بالروح، وكل ما يتعلق بالروح لا يمكن تقييمه مادياً، والإنسان بلا روح جثة هامدة لا نفع فيها ولا ضر، والروح هي الحياة، وذهابها تَغييب للحياة، وبالنتيجة موت محقق.
النفوس البشرية تتعب وتمل حينما تتكلم في إطار إنساني واحد، أيا كان هذا الإطار سواء أكان دينيا، أم اجتماعيا، أم سياسيا، وهذه هي طبيعة النفس البشرية، والفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها، ولهذا ثبت في الأثر عن حنظلة الأسيدي الصحابي الجليل، أنه مر بأبي بكر، وهو يبكي فقال: مالك يا حنظلة، قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما لك يا حنظلة، قال: نافق حنظلة يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، كأنه رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة، ونسينا كثيرا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات”. رواه مسلم في صحيحه.
هذا هو الدين الإسلامي دين يسر ومحبة وتسامح، ودين الفطرة الإنسانية، واليوم أردت أن انقلب على ساسة المنطقة الخضراء، وليكن حديثنا عن شجون الغربة العاطفية، حيث إن الإنسان في غربته يكون بحاجة ولو لكلمة طيبة فكيف إذا وجد الحنان والرقة والعفة والطيبة، وهذا ما حدثني به احد الأصدقاء، واليكم بعض الحكاية:
رجل وقور يحب الخير، هُجر من بلده بسبب أعمال الشغب الطائفي، وحينما يُذكر العراق يبكي بكاء الأطفال، وينسى وقاره؛ لأن حب العراق، كما يبدو، مرض لا يمكن الشفاء منه إلا بالارتواء من البلسم الشافي، وهو نهر دجلة الصافي.
في يوم من الأيام تعلق قلب الرجل الوقور، بحب طاهر صاف من امرأة عفيفة استثنائية، كما قال لي، يصفها بأنها أميرة النساء، بل يقول: هي أميرة نساء الكون، والغريب في قصة هذا الرجل، انه لم يرها، ولم يتحدث معها، بل كان الكلام بينهما عبر الانترنت، وعبر المراسلات الكتابية فقط، وهي تعرف شكله وصورته، وتعرف عنه اغلب أوضاعه المعاشية والاجتماعية والفكرية، هو يعرفها بأنها إنسانة عفيفة وذكية ورقيقة ورومانسية، إذا ذُكرت السياسة هي محللة سياسية من الطراز الأول، وإذا ذُكر الفن هي فنانة مبدعة من مصاف كبار الفنانين والأدباء، وإذا تحدثوا بالدين فهي فقيهة وعالمة، تبكي من أبسط المواقف المؤلمة، وتطير فرحاً بالسماء مثل الحمامة البيضاء من الموقف الجميلة، كانوا من اسعد الناس صحبة، وكانت تقول له: “أنت سري الطاهر”!!!
وفي لحظة من الزمن هجرها، أو هجرته، فالنتيجة واحدة، فما عاد صاحبنا يعرف شيئا عنها، كانت لا تنام إلا بعد أن تبعث له كلمات الود والحنان، كانت أهله في الغربة، وبلسمه من جراحات الفراق وآهات الألم.
الرجل الوقور لم يعد يحتمل فراقها، وهو يريد الزواج منها على سنة الله ورسوله، لكن الغربة وظروفها لا ترحم، ولا تهدي الغريب إلى سبيل، هو في حيرة من أمره، عشق عفيف، وفقر مخيف، وغربة قاتلة.
آلمني حاله كثيراً، فقلت له ناصحاً: يا صديقي أنا اقترح أن تنساها طالما أنك لم تلتق بها، وهذا يُهون عليك الأمر، فأطرق رأسه وقال: ليتني اقدر، ليتني اقدر، حينها أطرقت رأسي أنا أيضا، وقلت: أنا لا ألومك من تتحدث عنها امرأة استثنائية فعلاً في زمن نَدرت فيه هذه الصفات.
هنا سمعته يقول أبياتاً للإمام الفقيه الشاعر ابن حزم الظاهري:-
ليس التذلل في الهوى يستنكر فالحب فيه يخضع المستكبر
لا تعجبوا من ذلتي في ترحالةٍ قد ذل فيها قلبي المستنصر
ليس الحبيب مماثلاً ومكافياً فيكون صبرك ذلةً إذ تصبر
تفاحة وقعت فآلم وقعها هل قطعها منك انتصاراً يذكر
ذكرتني هذه القصة برواية “الحب في زمن الكوليرا”، للروائي الكولومبي جابرييل غارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، ويبدو أن صاحبنا سيكون مصيره، كحال بطل الرواية “فلورنتينو اريثا”، لكن هذه المرة ليس في كولومبيا، وإنما في الأردن!!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى