مزاجية الدولة!



يصنف العلماء الدولة بأنها شخص معنوي يخضع للقانون العام. والدولة التي هي الصورة المعاصرة للمجتمع، تمثلها الحكومة. والحكومة هي الجهة التنفيذية لمجمل السياسات الداخلية والخارجية للبلد.
ولا شك أن الحكومات المميزة أو الناجحة هي التي تنفذ السياسات المرسومة للبلد بعيداً عن الميول الشخصية والحزبية والفئوية والدينية لرئيس الحكومة، أو أي وزير داخل مجلس الوزراء، لأن إدخال العواطف والميول والمعتقدات الشخصية سيعرقل مسيرة الحكومة، وربما يجعلها تسير في طريق عدم الإنصاف والعدالة بين المواطنين. 
المطبات التي وقعت فيها الحكومات المتعاقبة على حكم بغداد بعد العام 2003 كثيرة جداً. لكن أبرز هذه المطبات -التي أدت لنتائج كارثية- أن غالبية زعماء هذه الحكومات تعاملوا على أنهم زعماء لطائفة وليسوا لجميع العراقيين. وبالتالي، كانت قراراتهم وردود أفعالهم واقعة تحت سطوة العواطف الشخصية والمفاهيم الدينية والمذهبية والحزبية، وهو ما تسبب بهذا الكم الهائل من الشقاق والتناحر والتفكك في عموم الدولة والبنية المجتمعية العراقية.
وصل الأمر عند هؤلاء الزعماء المزاجيين إلى درجة ضرب الدستور الذي كتبوه بأيديهم. فحينما نعود إلى الدستور العراقي الحالي، نجد أن الفرع الأول من الباب الثاني (الحقوق والحريات)، يؤكد في مادة الحقوق المدنية والسياسية؛ المادة (14): "العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي". وكذلك تؤكد المادة (38) على: "تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون".
هذه المقدمة الدستورية أردتُ منها بيان مزاجية حكومات بغداد في التعاطي بشكل طائفي مقيت، وبمكيالين، مع المظاهرات الدستورية والقانونية التي انطلقت في الأنبار وصلاح الدين ونينوى وبقية المدن قبل أكثر من عام ونصف العام، وبين المظاهرات الجارية الآن في بغداد ومدن الوسط والجنوب.
الحكومة المزاجية واجهت بقسوة وشدة مظاهرات المناطق الغربية والشمالية، بينما رأينا أنها تعاملت بشفافية وامتياز مع المظاهرات التي نظمها التيار الصدري في ساحة التحرير ببغداد قبل أيام، بل وبالقرب من أسوار المنطقة الخضراء التي تعد  أكثر مناطق العراق حساسية أمنياً وسياسياً، لأنها تضم مقار الحكومة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وسفارات الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول الكبيرة.
التاريخ القريب يشهد أن الحكومة هي التي اعتدت على المتظاهرين السلميين في الحويجة وديالى والأنبار والموصل، وأشعلت الموقف مع القوى الفاعلة في الاعتصامات السلمية، وتسببت بهذا الفلتان الأمني المستمر في البلاد حتى الساعة، ثم بعد ذلك اتهمت المتظاهرين بالإرهاب والتخريب. وهذا تناقض واضح وتضارب بين الواقع والدستور والمسؤولية!
المسؤول الناجح هو الذي لا يترك مشاعره وعواطفه وميوله الحزبية والسياسية والطائفية تتحكم بقراراته، وهذا ما لا ينطبق على غالبية زعماء الدولة العراقية بعد العام 2003، إذ إن غالبية القرارات المتعلقة بالجانب الأمني والخدمي هي وليدة نزوات وعواطف وليست نابعة من أسس ومنطلقات دستورية وقانونية. وهذا يؤكد حقيقة مهمة؛ أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا زعماء دولة، بل هم مدمرو الدولة عبر المزاجية في التطبيق، والإغفال أو التعالي أو تجاهل القوانين والتفريق بين المواطنين على أسس طائفية ومذهبية وعرقية! 
مزاجية حكومات بغداد، وتسارع الأحداث المركبة في العراق والمنطقة، يؤكدان أن حكومة بغداد، التي تنادي بالإصلاح، وكذلك بقية القوى السياسية الفاعلة في الساحة، ربما ستجد نفسها في مرحلة قريبة خارج اللعبة السياسية، وربما سنرى وجوهاً جديدة على رأس الهرم الحكومي في بغداد، لأنها ضربت ما تنادي به وتعاملت بمزاجية عالية وروح طائفية مع المواطنين، وهذه مؤشرات مرَضية لا يمكن أن تتصف بها الحكومات الناجحة التي يتقبلها الجمهور!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العراقيّون وكِذْبَات نيسان والتناحر المُرتقب!

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!