الإنسان والدمار!



الحديث عن الإنسان العراقي الذي عاصر مرحلة الاحتلال الأميركي، وكيف يمكن النظر إليها سياسياً واجتماعياً، كان سؤالاً بريئاً من الزميلة إيمان الحمود من راديو "مونت كارلو" الدولي، أرادت أن يكون مدخلاً لحوارها معي حول الإنسان العراقي في مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003.
وبعد أن قرأت رسالتها، انتابتني نوبة من البكاء وانفجار الذكريات، التي غلفتها الغربة ببعض الهموم والغيوم، وفي لحظة الألم مسكت القلم لأُسطر هذه الكلمات:
العراقيون عُرفوا بميلهم الفطري للسلام والطبيعة والتآلف. وعلى الرغم من المؤامرات التي حيكت ضدهم منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أنهم صمدوا وصبروا وتقاسموا الأفراح والأتراح في كل الأوقات، وفي أصعب الظروف.
العراقيون جربوا سنوات الحرب العراقية-الإيرانية، والحصار الدولي، الذي استمر منذ العام 1990 وحتى العام 2003. ثم وقعت على رؤوسهم كارثة الاحتلال التي ما يزالون يعانون منها حتى الآن.
في الأيام القليلة التي سبقت الاحتلال الأميركي-البريطاني-الدولي، كان العراقيون يتابعون بعض وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، التي أكدت أن الحرب قادمة لا محالة، وأن العراق متجه نحو مرحلة جديدة، خالية من أسلحة الدمار الشامل، والحكم الفردي. وفي مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عشر عاماً، وقع المحذور؛ فبدأت السماء تُسقط صواريخ الحقد والكراهية على المدنيين العزل بحجة تخليصهم من "الدكتاتورية وبناء عراق جديد"!
صواريخ وطائرات همجية دمرت الساكن والمتحرك، ومزقت أجساد الأطفال والنساء والشيوخ، وبعثرت وهدمت كل ما هو جميل ويمت للحضارة الإنسانية بصلة، وكأنهم ينتقمون من العراق والعراقيين بكذبة الديمقراطية التي طبلوا وزمروا لها، والتي مزقت الإنسان والحيوان والأفكار والقيم والجماد.
هناك، وتحت تلك السماء التي تمطر حمماً ونيراناً، والأرض التي لم تعد صالحة للعيش، كان الإنسان العراقي صامداً صابراً يلملم جراحاته، ويضع يده بيد إخوانه لأنهم موقنون أن الاحتلال لا يمكن أن يقدم لهم إلا الدمار والخراب.
ومع ساعات القصف الهمجي الأولى، بدأت الهجرة الداخلية من بغداد وبعض المدن نحو مدن عراقية أخرى. وتقاسم العراقيون -حينها- لقمة العيش كأنهم عائلة واحدة، فلم يكن العراقي يسأل الآخر: هل أنت سُنّي أم شيعي؟ هل أنت مسلم أم مسيحي؟ هل أنت عربي أم كردي؟
جميع هذه التسميات مُحيت في زمن المحنة، وأوقات القتل والاحتلال، ومرحلة التكاتف الإنساني النبيل. وهكذا استمر العراقيون في العيش معاً حتى استتبت الأمور، وانكشفت حقيقة المؤامرة، وصارت أصوات دبابات الاحتلال تزعج المواطنين في جميع مدن العراق. وبقوا على هذه الحال، وكأنهم يعيشون في كابوس مخيف، وكأن على رؤوسهم الطير.
العراقيون -بعد أن بسط المحتلون سيطرتهم على البلاد- ظلوا متماسكين، ولم يقفوا مع المحتلين على الرغم من كل صور الترغيب والترهيب التي مارسها الاحتلال وأعوانه من الذين جاؤوا في قطار المحتل الأميركي، بل على العكس من ذلك وقفوا ضده، وبدأت المقاومة الشعبية للاحتلال منذ الأيام الأولى.
بعد الاحتلال بقيت أواصر المحبة والتآلف بين العراقيين؛ سُنّة وشيعة، عرباً وأكراداً، وبدأ المحتل يحرك أتباعه لتدمير الإنسان العراقي، بالأموال مرة، والترهيب مرات ومرات. وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من الفتن، وعلى الرغم من الخسائر الجسيمة التي دفعت كثمن للوقوف على المبادئ، وجدنا الكثير من العراقيين ما يزالون يرفضون الطائفية والانهدام المجتمعي لأنهم موقنون أن الأشرار مصيرهم إلى زوال، وأن الدولة المدنية هي القائمة على المؤسسات المدنية والعسكرية المحايدة.
إن إنسانية العراقيين انتصرت على شيطانية الإرهابيين من المحتلين والمليشيات على الرغم من امتلاكهم للمال والقوة. 
بعد ثلاث عشرة سنة من الاحتلال والعملية السياسية العقيمة، التي هي من أكبر آفات المحتل الأميركي، نجد أن غالبية العراقيين ما يزالون واقفين ورافضين لمخلفات الاحتلال، لأن تجربة السنوات الماضية أثبتت لهم بالدليل القاطع أن غالبية من جاؤوا في قطار المحتل الأميركي ينفذون أجندات خارجية، وإن كانوا يحملون جنسيات عراقية. 
رغم المؤامرة الخطيرة التي حيكت -وما تزال- ضد العراق، فإن إرادة الأخيار ستنتصر على إرادة الأشرار. ومهما طال ليل الظالمين، فإنه إلى زوال. ومهما حاول الأشرار وتآمروا على الإنسان العراقي، فإنهم في نهاية المطاف سيفشلون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العراقيّون وكِذْبَات نيسان والتناحر المُرتقب!

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!