مساعدة النازحين.. بين السياسة والإذلال!


بحسب اعتراف الأمم المتحدة، هناك اليوم أكثر من ثلاثة ملايين ومائتي ألف نازح في داخل العراق، نتيجة استمرار العمليات العسكرية في الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين ومناطق حزام بغداد. وغالبية هؤلاء لا يملكون الآن قوت يومهم، وهم ضحية لإهمال حكومي واضح، وعجز إداري كبير؛ فلا هُم يجدون حكومة تنشر الأمن في مناطقهم ليعودوا إليها، ويتخلصوا من كابوس النزوح، ولا هُم يجدون ما يكفيهم في أماكن نزوحهم ليصبروا على مأساتهم، وبالتالي صاروا ضحية للفساد ولضياع الذمم والقيم لدى غالبية السياسيين!
الاعتبارات الدينية والإنسانية تتطلب من الجميع -أفراداً ومؤسسات، أحزاباً وحكومات- الحفاظ على كرامة النازحين المحتاجين، وأن لا تكون المساعدات المقدمة إليهم علنية، وأمام وسائل الإعلام، التي تبث صورهم في عموم البلاد التي يعرف بعضها بعضاً. وبالمحصلة، فإن مساعي الخير عبر هذه المساعدات تُجْهض بمجرد إعلانها، وتصوير المحتاجين وكأنهم -حاشاهم- مرتزقة في وطنهم!
الذي آلمني وأبكاني هو ماذا سيكون رد فعلي لو كنت مكان هؤلاء، وجاء من يريد مساعدتي ومعه كادره الإعلامي لتصوير "حفلة الإذلال، أو المساعدة"، وأنا كنت في أمس الحاجة! هل سأقبل بذلك أم لا؟!
حقيقة، بكيت وأنا أكتب هذه الكلمات، لأن من أصعب اللحظات في حياة الإنسان مواقف الذل والهوان، ولا ننسى الأثر الكريم القائل: "ارحموا عزيز قوم ذل"! فهل يستحق أهلنا في عراق الخيرات، ما يحصل لهم من ذل وهوان بحجة تقديم المساعدات لهم؟! ألا يكفيهم احتمالهم لحر الصيف القاتل، وبرد الشتاء الذي لا يرحم، وفوق كل هذا الفيضانات التي جعلتهم يعيشون وسط واحة من السيول والأوحال التي غمرت خيامهم؟! هل منْ هم بهذه الحال بحاجة لمن يأتي ليتاجر بقضيتهم، أم هم بحاجة ليد حانية، وقلب صادق حنون يخفف عنهم مصيبتهم؟!
غالبية الأطراف الفاعلة في ميدان الإغاثة من حقها أن تعلن عن مساعداتها للنازحين. لكن تصوير الأشخاص من دون رضاهم، سواء أكان هذا التصوير فوتوغرافياً أم فيديو هو أمر مخجل، وهي كما يقال فضيحة وليست مساعدة. وجميعنا نعلم أن جميع هؤلاء من عوائل كريمة اضطرتهم الظروف والحروب لترك ما يملكون، وصاروا في لحظة من الزمن في عداد الفقراء والمحتاجين. وبالتالي نحن أمام واجب شرعي وإنساني يتطلب منا الحفاظ على كرامتهم؛ لأن مساعدتهم بهذا الأسلوب العلني أمر فيه جوانب سلبية، ربما لا يبوحون بها بسبب العوز والفاقة.
ثم، هل من المعقول أن طبقاً من البيض، وقنينة زيت طعام، وبعض السكر والرز، تستحق أن تعلن على الملأ كمساعدات للنازحين؟!
أنا أعرف بعض أهل الخير في خارج العراق وداخله يساعدون النازحين بأضعاف هذه الكميات ومن مناشئ عالمية، وهم في كل يوم يوصلون شاحنة كاملة أو أكثر من المساعدات من دون أن تُذكر مساعداتهم ولو ببضع كلمات في الإعلام، ذلك لأنهم يعرفون أن صدقة السر هي البعيدة عن الرياء والمتاجرة بمصائب الناس.
لا شك في أن بعض أهل الخير اتخذوا خطوة التصوير من دون قصد التشهير أو المساس بكرامة النازحين. لكن بعض هؤلاء لديهم أغراض انتخابية وسياسية، وهؤلاء لا يختلفون عن تجار الحروب لأنهم يتاجرون بمصيبة أهلهم، وهؤلاء ماتت إنسانيتهم على الرغم من أن ظاهر أعمالهم مليء بالخير ونفع الآخرين، وإلا فلو كانوا صادقين لفضّلوا الصدقة الخفية على الصدقة العلنية! 
الواجب الإنساني والاجتماعي يحتم على الجهات الخيرية أن تعلن عن حملاتها بصور عامة، أو يتم تصوير النازحين من زوايا غير كاشفة لشخصياتهم بحيث لا تظهر صورهم إلا بموافقتهم، وهذا يمكن أن يجمع بين الأمرين: إعلان المساعدات، والحفاظ على كرامة النازحين.
في ظل هذه الأوضاع المتداخلة، بين الحرص على الحياة، والإصرار على الكرامة، استمرت معاناة أهلنا من النازحين داخل البلاد، وهم لا يتمنون إلا أن تنكشف عنهم هذه الغمّة ليعودوا لديارهم وينعموا بالأمن والكرامة، ولكن واقع الحال لا يبشر بخير، وربما ستستمر معاناتهم لأشهر وأشهر!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى