أَنْسَنةُ السياسة!



جاء في قاموس (اللغة العربية المعاصر) في باب (أنسنَ): "أنسنَ يُؤَنْسِن أَنْسَنةً، فهو مُؤَنسِن، والمفعول مُؤنسَن. وأنسنَ الإنسانَ ارتقى بعقله فَهَذَّبه وثَقَّفه، أو عامله كإنسانٍ له عقل يميّزه عن بقيّة المخلوقات".
ومما هو متفق عليه بين العلماء أن الغاية من علم السياسة تنظيم حياة المواطنين ومصالحهم. والسياسة كما يقول المقريزي في كتابه الخطط المقريزية (ج2، ص: 220): "القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال". والسياسة كما يعرفها  بيير فافر،  في كتابه " دراسات في علم السياسة، ص: 16 ": "فن حكم الدولة، وقيادة العلاقات مع الدول الأخرى".
وهكذا بقية التعاريف جميعها تؤكد على أن الغاية من السياسة تنظيم شؤون المواطنين والسعي لجعل الدولة الخيمة الجامعة لهم دون الأخذ بالاعتبار دين المواطنين ومعتقداتهم وألوانهم وأجناسهم وقومياتهم. 
والدولة العراقية بعد العام 2003 تعاني من غياب مفهوم احترام إنسانية غالبية المواطنين، وتجاهلها شبه التام لواجباتها في الحفاظ على أرواح المواطنين وممتلكاتهم واحترام معتقداتهم، وكل هذه المفاهيم طاردة أو حاطّة من إنسانية الإنسان، وضاربة لمفهوم الدولة الجامعة والانتماء لها.
ومما جاء في الدستور العراقي، المادة (15):"لكل فردٍ الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون".
ونحن هنا لن نتطرق لحالات انتهاكات حقوق الإنسان اليومية في العراق ولا لغير ذلك من صور الإذلال المُنفَّذة من أجهزة أمنية غالبيتها غير مهنية ومصبوغة بصبغة طائفية بحتة، وإنما سنتكلم عن مبادئ جوهرية سياسية جامعة يمكن بموجبها أن نبني معاً دولة العراق الجديد الخالية من المليشيات والإرهاب والمُقَدِّرة لإنسانية المواطنين.
هذه المبادئ قائمة على أسس متينة ومنها الحرية ونشر العدل وسيادة القانون، وأهمها احترام إنسانية المواطن وعدم السماح بانتهاك كرامته وحقوقه، ولهذا فإن المسؤول الذي لا يؤمن بحرية الإنسان لا يفقه من السياسة شيئاً، وإدارة الدولة القائمة على الظلم والاضطهاد ليست سياسة، وترك المليشيات تعبث بأمن الأبرياء وتنشر الخراب ليس من السياسة بشيء، وانتشار المخدرات وفتح أبواب انتشار الجريمة المنظمة والفساد لا يُعد من السياسة، والدولة التي تكيل بمكيالين، ولا تنظر للمواطنين على أنهم أصحاب حقوق وينبغي أن تسخر لهم كافة إمكانيات الدولة فهي ليست دولة وإنما هي معتقل كبير.
وفي ضوء ما تقدم ربما هنالك من يقول إن القوة أو الدكتاتورية مهمة في إدارة بعض الدول. وهذا الكلام يمكن قبوله في حالة تطبيق الدولة لمفهوم الحرية واحترام إنسانية المواطنين، ويمكن – حينها- التعامل مع الحالات الشاذة وفقاً للقانون بعيداً عن الظلم والاضطهاد أو الدكتاتورية.
أنْسَنةُ السياسة تتطلب من المسؤول – أي مسؤول- أن يكون أباً رحيماً عطوفاً ناظراً للمواطنين على أنهم عائلته الكبيرة، وساعياً- بما يستطيع- إلى تقديم الخير لهم وحفظ كرامتهم والابتعاد عن إلحاق الضرر بهم.
أنْسَنةُ السياسة ينبغي بموجبها تذكير المسؤولين أن السياسة أو الحكم ليس تسلطاً ولا انتقاماً، وأن المسؤول هو ممثل للشعب وهذا الممثل - وفقاً للمنظور القانوني- هو وكيل، والوكيل ينبغي أن يعمل بما يحقق مصلحة الموكِل، وإلا فانه يدخل في دائرة التصرفات غير المسؤولة أو غير الداخلة ضمن الوكالة، وحينها ينبغي أن تُسحب الوكالة باعتبار أن الوكيل أَخَلَّ بما مخول به.
تعقيدات المشهد العراقي تتطلب حكمة في الإدارة ممزوجة بإرادة قوية وإنسانية عالية حتى يتمكن الحاكم بموجبها السيطرة على الملفات المتشابكة لأن الواقع خطير ومعقد ومثل هذه المواقف لا تُفكَّك إلا بخبرة سياسية وعقل مُدَبِّر وإنسانية طاغية.
السياسة بحاجة إلى روح إنسانية، والمسؤول الفارغ أو المُفرَّغ من الإنسانية والرحمة ليس مسؤولاً وإنما جَلاَّداً، والجَلاّدون لا يمكن أن يقودوا بلدانهم للبناء والعمران،  وتجارب التاريخ - باختلاف أصولها الفكرية والمكانية- تؤكد أن الحاكم القوي العطوف أكثر نجاحاً وعطاءً ومقبوليةً من الدكتاتور القوي المنزوع الرحمة.
العراقيون بحاجة إلى سياسة إنسانية لا إلى الظلم والاستخفاف بكرامتهم وإنسانيتهم.
العراقيون بانتظار الغد المليء بالإنسانية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى