جدران "إستراتيجية"!



الدول المثالية هي التي تنظم سياساتها الداخلية والخارجية وفقاً لخطة إستراتيجية ربما تكون قصيرة أو متوسطة أو بعيدة الأمد. والسياسات الإستراتيجية لا تُنفذ بلمحة بصر، وإنما هي بحاجة إلى قيادة وتخطيط وتنظيم، وتمهيد، وربما " لتزويق" ودعاية إعلامية، أما التنفيذ فيكون المرحلة الأخيرة، والزمن اللازم للتنفيذ يختلف من إستراتيجية إلى أخرى، بحسب أهمية وعمق الغايات المُراد تحقيقها.
التخطيط الإستراتيجي في العراق- كما تقول الحكومة- دخل في الوزارات والدوائر الحكومية والجامعات والمنظمات المدنية، وصرنا نسمع باستراتيجيات لمكافحة الفساد والمخدرات والفكر المتطرف، وغيرها الكثير من المسميات التي لا نجد لغالبيتها أثراً واضحاً إلا في بعض المجالات، التي تريد الحكومة إنجاحها وتحقيقها.
التخطيط الإستراتيجي، أو المخططات السياسية صارت تُنفذ اليوم في بعض المدن  العراقية بالحجة الهزيلة، وهي مكافحة الإرهاب والحفاظ على الأمن، لكنها مع الأسف يُراد منها تحقيق أهداف طائفية ومذهبية، وربما حزبية، وذات أبعاد ديموغرافية.
الإستراتيجية الجديدة هي إعادة وضع الكتل "الكونكريتية" أو الجدران الإسمنتية في بعض المناطق لتحقيق غايات بعيدة، ومن أهمها إحداث تغيير مناطقي وسكاني" ديموغرافي".
ونحن لن نتحدث عن الجدران الإسمنتية حول الأماكن الحساسة أو المهمة، ومنها المنطقة الخضراء والوزارات والمقرات الحزبية والدبلوماسية خارج هذه المنطقة، وإنما نتحدث عن أماكن يمكن أن نقول عنها إنها عامة، ومن بينها مدينة سامراء القديمة في محافظة صلاح الدين، التي تبعد 110 كم شمال بغداد.
سامراء كانت مركزاً جامعاً لكل العراقيين سنة وشيعة، ولم تكن تعاني من كارثة الطائفية، حتى جاءت الجريمة المقصودة والمرسومة ضمن إستراتيجية خبيثة ودقيقة، ونفذت التفجير بمرقدي الإمامين العسكريين علي الهادي والحسن العسكري في فبراير/ شباط 2006، مما أدخل البلاد في عنف طائفي راح ضحيته المئات من العراقيين الأبرياء خلال أيام معدودة.
هذه الأيام عاد الحديث من جديد عن مدينة سامراء وكأن إستراتيجية جديدة يُراد تنفيذها بالمدينة، لهذا سمعنا أن قيادة عمليات سامراء قررت" بناء جدار إسمنتي حول المدينة القديمة التي تضم مرقد الإمامين، بهدف توفير الأمن لزوار المرقدين".
هذه الخطوة الحكومية رفضت من وجهاء وعلماء المدينة، الذين أكدوا - في بيان عقب اجتماعهم في المدينة-: " أن إنشاء الجدار العازل يُعد انتقاصاً من أهالي سامراء ومساً بشخصياتهم، وأنهم هم من حموا المراقد الدينية لمئات السنين، وأن المنطقة القديمة في سامراء، تمثل القلب النابض لسكان المدينة، ولا يجوز عزلهم عنها بأي شكل من الأشكال، ومنها الجدار".
هذه الخطوات الحكومية ربما تؤكد ما يقال حول إستراتيجية إقامة "محافظة سامراء المقدسة"، والتي تضم مناطق" سامراء القديمة، ومرقد الإمام السيد محمد في بلد، والإمام الكاظم في مدينة الكاظمية ببغداد"! ولهذا ربما سنسمع- قريباً- بتمرير قانون إقرار" محافظة سامراء المقدسة" عبر التصويت عليها داخل قبة البرلمان، وبذلك سنكون أمام شرعنة  للتغيير الديموغرافي.
السياسات الأمنية الناجحة هي التي تستند لجهود استخباراتية، وتعتمد على قوات مهنية ومدربة بشكل جيد، ولا يمكن نشر الأمن عبر سياسة الجدران الإسمنتية فقط، ولهذا فإن هذه الخطوات ليست أمنية، وإنما تهدف لأحداث تغييرات ديموغرافية، وبالذات في المناطق التي عرفت بأنها "سنية" على مر العصور.
إستراتيجية التقطيع المناطقي يمكن أن تنجح لحين بسبب القوة التي تمتلكها الأطراف الساعية لتنفيذ هذه الاستراتيجيات، لكن لا يمكن لهذه السياسات أن تستمر وتحقق أهدافها البعيدة لأنها صارت واضحة لغالبية العراقيين، وفي ذات الوقت فإن هذه الخطوات ستبقى سبباً للتَأَزُّم الاجتماعي بين أبناء المناطق من كلا الطائفتين، وبالمحصلة لا تجد أرضية صالحة لاستمرارها.
أعتقد أن الحكومة تسير في الاتجاه الخاطئ، والأولى بها أن تسعى لإيجاد منظومة أمنية وطنية عراقية قادرة على بسط الأمن، والكف عن استخدام أساليب "غير صافية" باتت مفهومة لجميع العراقيين.
هذه الإستراتيجيات المرسومة بدقة كانت – وما تزال- المغذي الأكبر لسياسات الأحزاب الطائفية، وستقود لمزيد من الإرباك والشحن الطائفي والمذهبي والتهشيم المجتمعي بين العراقيين.

فهل هذه الاستراتيجيات بريئة؟!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العراقيّون وكِذْبَات نيسان والتناحر المُرتقب!

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!