الإرهاب الغذائي!





ما يزال العراقيون، حتى الساعة، يدفعون ضريبة الاحتلال الذي لم يأتِ لهم بخير، ولا يمكن أن يأتي بنفع لأي بلد من بلدان المعمورة؛ لأن الاحتلال يُدمر ولا يبني، يُخرب ولا يعمر، يُفسد ولا يصلح. وخراب حال العراقيين بعد الاحتلال دخل في كل المجالات؛ منها الإدارة والصحة والغذاء والدواء وغيرها، وكأن المؤامرة حيكت بعناية فائقة لتشمل الوطن والمواطن معاً.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004، عُقد المنتدى العالمي الثاني للمسؤولين عن سلامة الأغذية، والمشترك بين منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية، والمتعلق بتعزيز الإدارات الرسمية لمراقبة سلامة الغذاء في العراق. وقد أكدوا على أن "الغذاء حق من حقوق الإنسان بموجب الأعراف السماوية والميثاق العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، والمؤتمرات الدولية الخاصة بالغذاء والتغذية، وآخرها مؤتمر روما العام 1996، الذي أقر بأن الغذاء الصحي والسليم حق من حقوق الإنسان".
والنظام الإداري الحالي لبرنامج سلامة الغذاء في العراق هو نظام متعدد الهيئات، إذ تساهم الوزارات والدوائر التالية فيه: وزارة الصحة، ووزارة التجارة، ووزارة الزراعة، ووزارة التخطيط، والجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية، ووزارة الصناعة، ووزارة البيئة (مركز الوقاية من الإشعاع)، ووزارة العلوم والتكنولوجيا، ووزارة التعليم العالي، ومختبرات مصانع ومعامل القطاع الخاص وجمعيات حماية المستهلك. وعلى الرغم من هذه المؤسسات الشاملة والمتنوعة، فإن غذاء العراقيين ما يزال عرضة لعصابات الفساد المالي التي تتاجر بالمواد التالفة والمنتهية الصلاحية، وتحاول زجها في مفردات البطاقة التموينية.
فقبل عدة أشهر، أثيرت في العراق ضجة كبيرة في وسائل الإعلام كافة، الرسمية والخاصة، ومواقع التواصل الاجتماعي، حول "دخول شحنة أرز هندية المنشأ تالفة وبآلاف الأطنان عبر موانئ البصرة إلى آليات التعاقد المعتمدة بين وزارة التجارة والشركات المجهزة"، وأن "الشركة المورّدة استوفت 90 % من قيمة الصفقة قبل وصول البضاعة إلى العراق". وعلى الفور، حاولت وزارة التجارة إخلاء مسؤوليتها والتغطية على الكارثة، وأعلن وزير التجارة بالوكالة سلمان الجميلي، في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، انتهاء التحقيقات بشأن صفقة الأرز الهندي، مؤكداً "عدم وجود جهة معتبرة أو مختصة أثبتت أن الأرز فاسد حتى الآن"، وأن "الشركة المجهزة واحدة من أكبر شركات الأرز العالمية ولها عشرات العقود مع الوزارة". فيما كشفت الموانئ العراقية من طرفها أن "وزارة التجارة أبلغتها مسبقاً بصلاحية الأرز الهندي وضرورة تفريغها بأسرع وقت"!
بعد عدة أشهر من التفاعل الوطني مع هذه القضية التي تمس حياة المواطن العراقي، أعلنت محكمة التحقيق المتخصصة بقضايا النزاهة في بغداد منعها "توزيع جزء من شحنة الأرز الهندي بعد ثبوت عدم صلاحيته للاستهلاك"، وأصدرت أمراً بالقبض على المسؤول عن تجهيزها، وأوقفت "صرف مبلغ خطاب ضمان تتجاوز قيمته مليون دولار، بعد أن أثبتت التحقيقات أن جزءاً من الشحنة (626 طناً) غير صالح للاستهلاك". فأين تحقيقات وزير التجارة، وكيف يمكن فهم قول دائرة الموانئ العراقية إن "وزارة التجارة قد أبلغتها بضرورة تفريغها بأسرع وقت"؟!
جريمة الأرز الهندي الذي سربت منه عشرات الأطنان في عموم البلاد، تجعلنا نتوقف عند حقيقة مخيفة، هي كم كميات المواد الغذائية التي وصلت المائدة العراقية وهي غير صالحة للاستخدام البشري عبر بوابة البطاقة التموينية.
وهذه الجرائم الإدارية تجعلنا نميل لفرضية أن انتشار الأمراض السرطانية في العراق لم يكن فقط نتيجة استخدام الاحتلال الأميركي لأسلحة محرمة، وإنما أيضاً بفعل استيراد مواد غذائية منتهية الصلاحية في ظل استمرار حالة الفوضى الإدارية والفساد الإداري.
المتلاعبون بقوت المواطن هم إرهابيون. وهذا الإرهاب لا يقل ضرراً عن إرهاب التفجيرات والمليشيات، لأن المتلاعبين بقوت المواطن يصل إرهابهم لجميع المواطنين عبر مواد غير صالحة للاستهلاك البشري، ربما تقود لأمراض فتاكة تفتك بصحة ملايين الأبرياء الذين لا يجدون إلا البطاقة التموينية منفذاً ومنقذاً لهم من الجوع وتبعات البطالة.
لا يمكن أن تُبنى الثقة بين المواطن والدولة إلا بجهاز رقابي قادر على حماية المواطن في كل ما يتعلق بحياته وكرامته ودوائه وقوته. وهذا ما يفتقر إليه العراق الآن!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى