عراق ما بعد "داعش"



لاحظنا منذ عدة أسابيع وصول طلائع القوات المشاركة في معركة الموصل ضد تنظيم "داعش" إلى حدود المدينة، بعد أن اتخذ القرار محلياً وإقليمياً ودولياً بضرورة توجيه ضربة قاسية للتنظيم. وفي ساعة كتابة هذا المقال، أعلن رئيس حكومة بغداد حيدر العبادي، فجر أمس الاثنين، انطلاق المعركة التي ستشارك فيها طائرات وصواريخ أرض-أرض مداها 60 كم، فضلاً عن المدفعية الأميركية والفرنسية، والقوات البرية الرسمية وغير الرسمية.
إعلان العبادي بنفسه انطلاق المعركة، وليس أيا من قادة التحالف الدولي، يعبر عن رسالة من الأميركيين يؤكدون فيها أنهم ما يزالون يدعمون العبادي، وأنه هو المتحكم بقرارات المعركة، رغم وجود آلاف المقاتلين من عشرات الدول حول الموصل خصوصاً، وفي العراق عموماً.
معركة الموصل لن تكون نزهة للأطراف المشاركة فيها، لأن "داعش" لم يعد يمتلك خيارات واسعة للمناورة كما كان قبل فقدانه لغالبية أراضي محافظة الأنبار، رغم سيطرته المستمرة حالياً على أجزاء واسعة من صحراء المحافظة. وهذا يعني أنه سيقاتل "بشراسة" للحفاظ -على الأقل- على وجوده الظاهر في ثاني أكبر محافظة عراقية. ولا يخفى كذلك أن تعدد الأجندات للأطراف المتوقع مشاركتها في المعركة ربما يمكن اعتبارها نقطة سلبية، تخدم "داعش" بشكل أو بآخر.
المتابع لتطورات وجود أو نمو "داعش" على الساحة العراقية، يمكن أن يشكك في إمكانية إنهاء تأثير هذا التنظيم بصورة تامة من المشهد العراقي، وذلك مع احتمالية انتصار القوات المهاجمة وهزيمة "داعش"؛ ذلك أن التنظيم لديه أتباع صاروا جزءاً من تركيبة المجتمع، وبالذات من بعض المحافظات المنكوبة، كنتيجة طبيعية لاستخفاف الحكومات المتعاقبة بتواجد أبناء هذه المدن، بل وحتى كرامتهم ومعتقداتهم، فكيف يمكن أن يُهزم "فكر" هؤلاء بالقوة فقط، والتجارب الإنسانية علمتنا أن الأفكار -في الغالب- لا تندحر، أو لا تتغير إلا بمفاهيم ورؤى موازية أو مقابلة؟!
معركة الموصل واحدة من المراحل التاريخية التي يمكن أن تؤسس لمراحل لاحقة، تحمل في طياتها العديد من السيناريوهات المتوقعة في مرحلة ما بعد "داعش"، أو الموصل.
إذ هناك احتمالية لاستماتة التنظيم في حربه هناك، ما يعني أن المعركة ستستمر، وسنكون أمام مرحلة حرب شوارع لا يُعرف متى تنتهي، حتى وإن أعلنت القوات المهاجمة هزيمة التنظيم والانتصار عليه.
الفرضية الأخرى، تقضي بنهاية التنظيم من المدينة. وهذا يفتح الباب على صراع مصالح محلي بين أبناء المدينة فيما بينهم، وكذلك تدخل القوات الكردية في المشهد على اعتبار أن بعض مناطق الموصل هي من المناطق المتنازع عليها، فضلاً عن التواجد الأجنبي الذي لا يمكن التكهن بموقفه في حال حصول اقتتال كردي-عربي بعد نهاية معركة الموصل.
أظن أن مشروع آل النجيفي الذي تحدث عنه محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي حول تقسيم المدينة إلى ست محافظات، سيجد أرضية خصبة بعد المعركة، وذلك بسبب غياب حكومة مركزية قوية، وتنامي التناحر الداخلي في المدينة حول النفوذ والمصالح ونتيجة المطامع الحزبية والفئوية والشخصية، وجميعها عوامل داعمة لانهيارات سياسية وجغرافية ستشهدها المحافظة.
سيناريو آل النجيفي سيؤسس لمرحلة إعادة إحياء مشروع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يقضي بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، وهذا هو الهدف الأبرز لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة.
معركة الموصل ربما ستؤسس لشرخ اجتماعي جديد -إن رافقتها عمليات انتقام طائفي ومذهبي كما حصل في الفلوجة والصقلاوية والكرمة. وبذلك نكون قد فقدنا الإنسان، الذي هو أهم ما تملك الأمم والمجتمعات الحية!
العراق بحاجة لمرحلة تاريخية تؤسس لبداية جديدة قائمة على القوى الوطنية العراقية النقية، ومبنية على المصالحة، وكف يد المليشيات، وقيام عملية سياسية خالية من المجرمين، وتمثل جميع أطياف الشعب. فهل هناك رغبة دولية ومحلية جادة للوصول بالعراق إلى مرحلة السلم التام؟
أعتقد أن المصالح الدولية الكبرى والمحلية المحدودة لا ترغب في إخراج العراق من دوامة العنف والفساد والاقتتال الداخلي. ومعركة الموصل ستكون اختباراً حقيقياً للتلاحم العراقي، فهل سيصمد العراقيون أمام التحديات، أم أن الريح ستأتي بما لا تشتهيه السفن؟
أخيراً، هل ستكون الموصل بداية مرحلة جديدة في العراق؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى