الدولة الرملية!



اللعب بالرمال على شواطئ البحار، من أجمل الألعاب التي يمارسها الكبار قبل الصغار، لبناء هياكل متنوعة؛ للمتعة البريئة، ولإشباع آمال الإنسان وأحلامه التي ترافقه مرافقة الروح للجسد، حتى أنه في بعض الدول رأينا عشرات الفنانين والهواة يمارسون بناء النماذج والأشكال المميزة من رمال الشواطئ.
والبناء المشيد على الرمال نجده ينهدم ويتلاشى مع أول طلائع الموج الهادئة قبل الغاضبة؛ لأنه لم يبن على أرضية متينة، وبمواد صلبة قادرة على تحمل الضغوطات والتقلبات المتنوعة.
والدول هي الأخرى كالبنيان؛ ربما تكون رملية أو صخرية. أما الدولة الصخرية، فهي التي شُيّدت على قواعد الإنصاف والعدل والمواطنة. وفي المقابل، هناك الدولة الرملية، التي لا يمتلك ساستها الحنكة في إدارتها، ولا القدرة والخبرة في سياسة الناس، وبالتالي هم يبنون مؤسسات هشة، ستنهار في أول اختبار لقوتها وإمكاناتها.
"الدولة العراقية" بعد العام 2003، هي دولة رملية. وهذه بعض الأدلة:
- غالبية ساستها فشلوا في نشر الأمن والسلام في البلاد. وهم يبادرون إلى تعميق مواطن الفرقة والخلاف بين المواطنين، عبر سياسات طائفية هدامة.
- فشلهم في بناء المنظومة الأمنية، على الرغم من القدرات الهائلة التي أُنفقت على الجيش وبقية الكيانات الأمنية. وأكبر دليل على "القوة الرملية"، هو انهيارها في أكبر محافظتين عراقيين، وفقدانها السيطرة على نصف البلاد تقريباً.
- استعانة الحكومة بالمراجع الدينية والفتاوى لحشد المواطنين وتجييشهم، لاستمرار العملية السياسية. فهذه الحشود الشعبية -البديلة عن الجيش- أوضح دليل على خراب المؤسسة العسكرية التي بُنيت على الرمال، والمتآكلة نتيجة الفساد المالي والإداري. وفي نهاية نيسان (أبريل) الماضي، كشفت اللجنة المالية في البرلمان الحكومي عن خسارة البلاد نحو 360 مليار دولار بسبب عمليات الفساد، خلال الفترة بين العامين 2006 و2014.
- اعتماد الحكومة على سياسة "الاعتقالات الجماعية العشوائية"، والمستمرة في عموم البلاد، لأنهم يعتقدون أن هذه الاعتقالات -ربما- تقودهم في حالات معينة لبعض المطلوبين. لكن هذه سياسة سقيمة لا يمكن أن تُبنى عليها الدول؛ لأن الدولة القوية تَبني منظومتها الأمنية على أُسس مخابراتية دقيقة، يتم بموجبها اعتقال المطلوبين وفقاً لمعلومات دقيقة. فيما سياسة الاعتقالات العشوائية أنتجت عشرات الآلاف من المعتقلين الأبرياء، غالبيتهم يتم اعتقالهم من دون مذكرة قضائية، ومن دون تهم محددة. ومن ثم، جعلت هذه السياسة سجون البلد في حالة انتعاش، وهذه علامة سلبية وليست إيجابية.
وفي الأسبوع الماضي، قررت محكمة عراقية الإفراج عن 855 سجيناً جرى اتهامهم من مخبرين سريين وجهات أخرى بالإرهاب، لكن بعد سنوات من الاعتقال لم تثبت إدانتهم. فكم مثل هؤلاء الآن قابعون ظلماً وجوراً خلف القضبان في السجون السرية والعلنية؟!
- استمرار حالة الفلتان الأمني في أرجاء البلاد، وازدياد البطش الحكومي لأبناء الأنبار تحديداً، بحجة مقاتلة تنظيم "داعش". وغالبية ضحايا البراميل المتفجرة والقصف الجوي والمدفعي بالأنبار هم من الأطفال والنساء. ولا أحد يحرك ساكناً أمام هذه المجازر الرسمية!
وقبل أيام، أعلنت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي"، عن استشهاد وإصابة "أكثر من ثلاثة آلاف و153 مواطناً كحصيلة لأعمال العنف في شهر حزيران الماضي. وأنه وفقاً لدائرة صحة الأنبار، فإن (عدد) الضحايا من المدنيين بالمحافظة بلغ 299 مدنياً، منهم 136 شهيداً، و163 جريحاً"!
- عجز الحكومة عن استيعاب النزوح الجماعي لأبناء الأنبار، وتعاملها العنصري مع النازحين منهم إلى بغداد، ليسجلوا بذلك سابقة خطيرة سيكتبها التاريخ بمداد الذل والخنوع!
هذه الأدلة المقتضبة -وغيرها- تؤكد أن "الدولة العراقية" اليوم قاب قوسين أو أدنى من الانهيار؛ لأن غالبية زعمائها لم يؤسسوها على الحب والإنصاف والعدالة والانتماء الحقيقي للوطن. وهذه القيم تُعد من القواعد المتينة التي تبنى عليها الدولة الصخرية القوية. أما الكراهية والظلم والتعسف، فهي أسس رملية، ستؤدي بالبلاد إلى الانهيار، إن عاجلاً أم آجلاً.
نتمنى أن يُبنى صرح العراق من لبنات الحب والألفة والوحدة بين جميع طوائفه. ونحلم أن نرى العراق بأحسن الأحوال. لكن متى سيتحقق هذا الحلم؟!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى