الأنبار المعركة الفاصلة



المعارك القاسية المستمرة منذ عدة أشهر في محافظة الأنبار العراقية الغربية بين مقاتلي الجيش الحكومي المدعوم بمليشيات الحشد الشعبي وبين مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، نتج عنها - وبوضوح تام - سيطرة تنظيم الدولة على غالبية أراضي المحافظة، وأن التنظيم حتى هذه اللحظة يعزز تواجده في عموم المناطق الغربية العراقية، على الرغم من الضربات الجوية والتحشيدات الحكومية.
وقبل الخوض في حيثيات الصعوبات والتعقيدات على أرض المعركة في محافظة الأنبار، المحافظة التي تعد أكبر محافظات العراق مساحة، وهي مدينة سنية تماماً، والتي تتجه هذه الأيام نحو معركة حاسمة، يمكن توضيح الآتي:
بعد هزيمة، أو انسحاب عناصر تنظيم الدولة من غالبية مدن محافظة صلاح الدين، بدأنا نسمع - عبر تسريبات رسمية وغير رسمية - أن هنالك خلافاً حول المعركة القادمة، والخلاف نشب بين واشنطن، التي تعطي الأولوية لمعركة الموصل، وبين حكومة بغداد المدعومة إيرانياً، والتي تريد المعركة القادمة في الأنبار.
وهنا يمكن بيان الأسباب، التي ربما تجعل حكومة السيد حيدر العبادي تميل لكفة معركة الأنبار على حساب معركة الموصل، ومنها:
- قرب الأنبار من العاصمة بغداد، حيث تبعد أقرب نقطة لها من بغداد أقل من (50) كم، وهذا يعني أن السيطرة التامة على هذه المحافظة سيجعل بغداد، ومجمل العملية السياسية في خطر حقيقي.
- هنالك رغبة إيرانية واضحة في ضرورة تقديم معركة الأنبار على الموصل، وذلك لأن إيران يهمها تأمين الأوضاع في بغداد لصالحها باستمرار العملية السياسية؛ وبالتالي استمرار تلويحها بورقة الضغط العراقية في المفاوضات مع العالم بخصوص ملفها النووي، واستمرار التغول الإيراني في المنطقة عبر البواية العراقية.
- موقع الأنبار الاستراتيجي وحدودها مع ثلاث دول عربية، (السعودية، الأردن، وسوريا)، له أهمية سياسية واقتصادية كبيرة، وكذلك سيطرة التنظيم - بحسب مصادر حكومية محلية في الأنبار - على 90% تقريباً من أراضي المحافظة، وإحكام سيطرته على الطريق الدولي مع الأردن وسوريا، كل هذه الأسباب تفسر الالحاح الحكومي بضرورة تأمين هذا الطريق؛ لغايات سياسية وعسكرية ولوجستية ومعنوية؛ لأن بقاء هذا الطريق تحت سيطرة التنظيم يعد بحد ذاته صفعة كبيرة لمكانة ومقبولية الدولة في عموم الشارع العراقي.
- محاذاة الأنبار لمحافظات شيعية مقفلة تقريباً ( النجف كربلاء، بابل)، وعليه فان الحكومة تعمل جاهدة من أجل تأمين هذه المحافظات خوفاً من ردود الفعل الشيعية ضدها، وكذلك تخوفها من فتك تنظيم الدولة بأبناء هذه المحافظات.
- وجود عناصر الصحوات الموالية للحكومة والمستعدة للمشاركة العملية والاستخبارية في المعركة، وهذا يعد ورقة ضغط ضد التنظيم في الميدان؛ لأن عناصر الصحوات يعرفون أماكن تواجد عناصر التنظيم، ولهم خبرة بجغرافية المناطق.


أهمية الأنبار للتنظيم:
مقابل هذه الأوضاع الميدانية، نجد أن تنظيم الدولة، ورغم خسارته للعديد من المناطق التي سيطر عليها العام الماضي في محافظات ديالى (شرق)، وصلاح الدين(شمال)، إلا أنه ما زال يبسط سيطرته على أغلب مدن ومناطق الأنبار(غرب)، التي سيطر عليها مطلع عام 2014، وهو جاد في سعيه لاستكمال سيطرته على باقي المناطق، التي ما تزال تحت سيطرة القوات الحكومية وأبرزها الرمادي (مركز الأنبار)، وعليه فإن معركة الأنبار الكبرى تعد ذات أهمية بالنسبة له؛ ولن تكون سهلة، وذلك للأسباب الآتية:
- اعتقاد قيادة التنظيم أن معركة الأنبار اختبار حقيقي لقدرات التنظيم في الوقوف بوجه القوات الحكومية المدعومة بمليشيات الحشد الشعبي، التي أكد زعيمها هادي العامري أنه سيسحق التنظيم في معركة الأنبار، وأن الرمادي لن تسقط بيد التنظيم.
- اعتماد التنظيم على المناطق الوعرة الرابطة للعراق مع سوريا؛ وبالتالي فان هزيمة التنظيم من الأنبار في المناطق الوعرة لن تكون بالسهولة المتوهمة؛ لأنه في مرحلة ما قبل الاعتصامات كان مقاتلوا التنظيم متواجدين في منطقة الصحراء وبعلم الحكومة في الأنبار وبغداد، ورغم ذلك لم تتمكن القوات الأمنية من ايقاف عملياتهم، التي كانت تعتمد على الهجمات المباغتة وتفجير العبوات الناسفة ثم الانسحاب للصحراء.
- التكتيك المتبع من قبل التنظيم في معارك الأنبار الحالية يستند على حرب التضليل الميداني والإعلامي، والاعتماد الواضح على المعلومات الاستخبارية فيما يتعلق بحركة القوات الحكومية، وإمكانية سحبهم لميدان المعركة الذي يحدده – في الغالب- مقاتلوا التنظيم، وكذلك اعتماده على فتح أكثر من جبهة للقتال في العديد من المناطق، التي ربما يقوم بها بضع عناصر من التنظيم، وهذا الأسلوب يربك القوات الحكومية، ويظهر امكانية كبيرة للتنظيم في توجيه المعارك.
- وجود امدادات كبيرة من المناطق السورية التابعة للتنظيم، ووجود عمق استراتيجي يمكن للتنظيم الانسحاب إليه في حالة تقهقر قواته أمام الضربات المحتملة.
- التنظيم يولي أهمية كبيرة لنتيجة المعركة؛ وذلك لآثارها النفسية والمعنوية على مقاتليه، وعليه هو يراهن على كسبها، أو على الأقل الصمود فيها؛ وذلك لرفع المعنويات العسكرية والنفسية لمقاتليه، الذين وجدوا في هزيمتهم، أو انسحابهم من تكريت رجحاناً لكفة الحشد الشعبي على التنظيم.
- معركة الأنبار ربما ستشهد تواجداً برياً أمريكياً محدوداً، وهناك بعض المصادر غير الرسمية العراقية بينت وجود توافق سياسي سري بين اروقة الحكومة على هذه الرؤية، وعلى عدم التردد بدعوة البرلمان للموافقة على قدوم قوات برّية أمريكية للتصّدي للتنظيم، خاصة وأن واشنطن عززت معداتها الحربية في الكويت والأردن، وهذا يدفع التنظيم لمزيد من الاستعدادت التي تضمن عدم هزيمته بسهولة.



صعوبات المعركة المحتملة:
- وجود الالاف المدنيين في داخل الأنبار، وهم الآن بين مطرقة التنظيم وسندان الحشد الشعبي، وحاولوا قبل أيام النزوح نحو بغداد وبقية المحافظات، إلا أنهم واجهوا تعقيدات حكومية جعلت الكثير منهم يفضلون الموت في ديارهم، رغم القصف الجوي والبري المستمر على محافظتهم.
- التخوف من انتقام الحشد الشعبي من المدنيين على اعتبار أن من بقي في الأنبار هم من التنظيم، وهذا حكم مجحف لا يمكن أن تُفهم به أوضاع أهالي الأنبار الذين أقفلت بوجوههم أبواب المدن في داخل وطنهم، وبعلم ومباركة حكومة بغداد.
- حيرة الكثير من أهالي الأنبار والموصل في قضية مع من يكونوا هل يكونوا مع تنظيم الدولة وسيكونون ضمن (الإرهابيين)، أم يجلسون في بيوتهم ينتظرون الموت بالمعارك بين الطرفين، أو على يد مقاتلي الحشد الشعبي بعد جلاء التنظيم؟!
هذه حيرة قاتلة، لأنهم لا يريدون أن يكونوا حطباً للمعركة في كل الأحوال. وهذا هو سر الاصرار الشعبي، ومطالبتهم بعدم مشاركة مليشيات الحشد في المعركة؛ لأنهم يتخوفون من الانتقام المتوقع، تماماً كما حصل في تكريت، التي كانت بحق مجزرة تضاف لسجل المليشيات الإجرامي.
ومقابل هذا التخوف من انتقام الحشد الشعبي، نجد تخوف بعض العشائر السنية وتبرير مشاركتها الفعلية في المعركة ضد التنظيم، ومنها عشائر (البونمر والبوفهد والجغايفة) والتي تتخوف من عمليات الانتقام القاسية التي سينفذها مقاتلوا التنظيم بحقهم في حال تمكنزا من كسب المعركة، وهذا ما تشهد به الاعدامات السابقة التي طالت عشائر البو نمر وغيرها من العشائر التي قاتلت التنظيم.
 - عدم جدية حكومة العبادي في تسليح أبناء الأنبار، لأنها متيقنة أن هذا السلاح في غالبه سينقلب ضدها؛ لأنها لم تنفذ، أو لم تعط أهالي هذه المحافظة وبقية المحافظات السنية حقوقهم الدستورية والقانونية المسلوبة.
هذا الموقف الحكومي نتج عنه عدم وجود توافق أنباري شعبي حول قضية مقاتلة التنظيم؛ وكذلك الاختلاف حول قضية المشاركة وعدمها في العملية السياسية؛ وذلك بسبب نكول الحكومة المتكرر في تنفيذ وعودها.
- لاشك أن قدرات التنظيم في العراق أكبر وأكثر من امكانياته في سوريا، وذلك لأن الساحة السورية لا يمكن اعتبارها ساحة نقية لمقاتلي التنظيم، إذ تتواجد هناك العديد من التنظيمات العسكرية المدعومة عربياً ودولياً، على خلاف الحال في أرض الرافدين، إذ أن التنظيم اليوم لوحده في الميدان، بينما رأت بقية فصائل المقاومة العراقية الوقوف على التل لحين انجلاء المعركة، التي يعتقدون أنها طولية بين مقاتلي التنظيم والتحشيدات الشعبية والرسمية الحكومية.
هذا الحال جعل من معركة الأنبار - وكذلك الحال لمعركة الموصل - هي معركة مصيرية؛ لأنها امتداد استراتيجي للتنظيم داخل الأراضي السورية، وهذا يعني أن خسارته لمعركة الأنبار يعني موت العمق الاستراتيجي للتنظيم في معاركه المستمرة في سوريا، وهذا في التقديرات العسكرية بداية الهزيمة الكبرى؛ ولهذا سنجد أن التنظيم سيخوض حرباً ضارياً  للانتصار في الأنبار.
وهذا ما يفسر لجوء التنظيم لاسلوب حفر الخنادق والسواتر الكبيرة في الأنبار والموصل، وذلك يدلل على أن قيادة التنظيم تنبهت إلى أن معاركها القادمة ستكون صعبة؛ وبالتالي يجب تنظيم الخطوط الدفاعية من أجل ديمومة المعركة، وهذا ما نجده اليوم حول محيط ناحية العامرية جنوب مدينة الفلوجة.
هذه هي خريطة الأوضاع العامة في الأنبار، وأظن أن المعركة ستكون قاسية وطويلة الأمد، ولن تتمكن حكومة بغداد من فرض سيطرتها عل الأنبار إلا بالجهد الجوي الدولي، المتوقف الآن بسبب شرط عدم مشاركة الحشد الشعبي في المعركة، والذي توهم بقوته أكبر من حقيقتها، مما سيجعل هذه المعركة مطحنة جديدة تضاف لسجل المطاحن والمجازر البشرية في بلاد الرافدين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى