حكومة الأتقياء


ورد في الأثر ما معناه: إن التقوى في حقيقتها ليست ادعاءً مجرداً عن الحقيقة والانتماء، وإنما هي شعور يختلج في الصدر فيظهر على الجوارح من خلال العمل الصالح؛ وعليه فإن رفع الشعارات الدينية وغير الدينية لا يمكن أن يغير من الحقيقة شيئاً ما لم تكن مقرونة بعمل فعال يحقق مصالح المواطنين، ويحفظ أرواحهم وأموالهم وحرياتهم وكرامتهم.

مرحلة ما بعد عام 2003 كانت بداية لزمن تميز بحضور ما يسمى "الإسلام السياسي" الشيعي والسني في العراق، وصارت الأحزاب الدينية مسيطرة على العديد من مرافق الدولة، بل أغلبيتها من وقف ودعم للاحتلال الأميركي بفتاوى دينية سياسية لتسهيل احتلال العراق بحجة التخلص من الحكم الدكتاتوري، وكذلك تحت قاعدة "عدو عدوي صديقي".

ونحن لا نريد أن نذكر سرداً تاريخياً للأحزاب الدينية في العراق، لكنها اليوم هي المتصدرة والممسكة بالقرار السياسي العراقي، فهل نجحت هذه الأحزاب -التي يدعي قادتها أنهم أتقياء ويخافون الله- في تحقيق رفاهية ومصالح الوطن والمواطن؟!

لا شك أن السؤال عريض جداً وهو بحاجة إلى دراسات وبحوث جادة يتم خلالها إحصاء "الإنجازات الحقيقية" وليست الوهمية، للوصول إلى تقييم موضوعي نزيه مطابق للحقيقة وبعيد عن الميول الشخصية.

المرحلة السابقة من حياة العراقيين كانت حبلى بالأحداث الدموية والمليشياوية التي قتِل فيها وهُجّر واعتقِل ملايين الأبرياء بحجج واهية لا تصمد أمام الحقيقة الساطعة، وهي أن الإرهاب في العراق اليوم هو إرهاب رسمي قبل أن يكون "إرهابا ضد الوطن"، وبالتالي فلا يمكن أن تستمر هذه الحجة لتبرير هذه السياسات غير المنطقية والهزيلة.

وهنا سأذكر جزءاً من مرحلة العمل السياسي الإسلامي في العراق يتعلق بحزب الدعوة الإسلامية العراقي الذي تأسس سنة 1957م، على اعتبار أن قادته اليوم هم الذين يقودون دفة الحكم في بلاد الرافدين.

العراقيون -وبعد أن تربع على قلوبهم زعيم حزب الدعوة الإسلامية رئيس الوزراء السابق نوري المالكي لأكثر من ثماني سنوات ثم ترك منصبه مرغماً رغم استقالته- ما زالوا في ذات الحيص بيص.

اليوم -وبعد أن تسنم مقاليد الحكم في بلاد الرافدين خليفة المالكي ورفيق دربه وأحد كبار تنظيم حزب الدعوة الإسلامية السيد حيدر العبادي- بدأنا نسمع العديد من الأسئلة البعيدة عن الواقع، ومنها السؤال الذي يتكرر في كل مقابلة أو مناقشة: أليس العبادي أفضل من المالكي بالنسبة للعراقيين؟!

والجواب لا يمكن أن يكون بهذه السهولة التي قد يتصورها بعض المتابعين للشأن العراقي وذلك لأسباب عدة، منها: 

- عدم اعتراض حيدر العبادي على سياسات المالكي السابقة في مرحلة حكمه الدكتاتوري رغم استمرارها أكثر من ثماني سنوات، وهذا مؤشر واضح على موافقته الضمنية على تلك السياسات الطائفية الإقصائية التهميشية. 

- عدم وضوح سياسة العبادي تجاه أبناء المحافظات المهمشة (الأنبار، وصلاح الدين، وديالى، والموصل، وكركوك، وأغلبية مناطق حزام بغداد)، من حيث تحقيق مطالبهم الدستورية والقانونية التي خرجوا من أجلها في مظاهرات سلمية استمرت أكثر من عام، ونلاحظ هنا أن العبادي تعامل مع هذا الملف بذات أسلوب المالكي إلا أنه لم يصرح بذلك؛ بل إن أفعاله هي التي أكدت هذه الحقيقة. 

- استمرار سياسات القتل العشوائي في مدن الفلوجة وهيت وسامراء وتكريت والمقدادية وغيرها بحجة ملاحقة مقاتلي "تنظيم الدولة"، وهي ذات الحجة التي استباح بها المالكي أرواح أبناء هذه المدن وأعراضهم وأملاكهم. 

لقد وجه العبادي -قبل شهرين تقريباً- بإيقاف قصف منازل المدنيين حتى ولو كان فيها عناصر "تنظيم الدولة"، وخلال أقل من 24 ساعة عادت المدفعية والراجمات لتضرب المدنيين العزل، ولا ندري ماذا يبغي العبادي من وراء هذه التصريحات الإعلامية غير المطابقة للواقع؟! فهل هي تضليل للرأي العام، أم تصريحات للتسويق الإعلامي لا غير؟!

ولو ذهبنا الآن إلى الأكثرية الساحقة من المُهجّرين وسألناهم: لماذا تركتم منازلكم؟! لقالوا: بسبب قصف الطائرات والمدفعية وجرائم مليشيات الحشد الشعبي!
- استمرار الاعتقالات العشوائية التي هي اليوم بذات المعدلات في مرحلة حكم المالكي، سواء كانت بمذكرات اعتقال أو بدونها، فالمهم أنها ما زالت مستمرة ولم تتوقف؛ حيث شهد نوفمبر/تشرين الثاني الماضي اعتقال 1523 مواطناً، وهذا يؤكد استمرار ذات السياسات الحكومية في المرحلتين المالكية والعبادية! 

- عودة ظهور المليشيات (مليشيات الحشد الشعبي) بصورة واضحة وأكبر بكثير من أية مرحلة أخرى من مراحل التاريخ العراقي الحديث، وهي اليوم تقتل وتختطف المواطنين وتحرق منازلهم في العديد من المدن، منها بهرز والمدائن واللطيفية والمحمودية والدورة والتاجي، وغيرها من المناطق التي صارت مسرحاً لجرائم تلك المليشيات الخارجة عن القانون، والمدعومة دينياً وقانونياً. 

وفي ذات الوقت هنالك بعض السياسات المختلفة بين المالكي والعبادي، ومنها:

- لم يستمر العبادي في إدارة وزارتيْ الدفاع والداخلية وكالة، بل تخلص من هذا العبء على اعتبار أنه القائد العام للقوات المسلحة، بينما كانت هاتان الوزارتان تداران وكالة من قبل المالكي لأكثر من ثماني سنوات. 

- إلغاء مكتب القائد العام للقوات المسلحة الذي شكله المالكي للإشراف على وزارتيْ الدفاع والداخلية؛ وهذا يشير إلى محاولته مخالفة المالكي -ولو ظاهرياً- في بعض قراراته.

- على المستوى الداخلي يشن العبادي حملة "جادة" للقضاء على الفساد المالي والإداري في عموم وزارات الدولة، وبدأ بالوزارات الأمنية، حيث أكد وجود أكثر من 50 ألف عنصر أمني "فضائي" (وهمي)، بينما أكد إياد علاوي وجود ربع مليون "فضائي" في وزارتيْ الدفاع والداخلية.

وفي ذات المجال، عمل العبادي على تغيير العشرات من القيادات الأمنية التي قيل إن ولائها للمالكي؛ وقد أحيلت أغلبيتهم إلى التقاعد.

- أما على المستوى الخارجي؛ فقد عمل العبادي على تغيير السياسات الخارجية الحكومية، وزيادة الانفتاح الرسمي صوب دول الجوار والمنطقة، مع استمرار الباب مفتوحاً أمام النفوذ والتغول الإيراني. وأنا أعتقد أن الأزمة السياسية والأمنية الخانقة التي تمر بها الحكومة -إضافة إلى الضغوط الأميركية- هي التي دفعتها لفتح الأبواب الموصدة في علاقاتها مع العديد من دول الجوار والمنطقة.
أخيراً: ربما يمكننا أن نتساءل هنا: هل يمكن لهذه السياسات المتبعة من حكومة العبادي أن تكون بلسماً لجراحات العراقيين العميقة؟

الواقع يؤكد استمرار قتل المواطنين واعتقالهم، وتهجيرهم وتدمير ممتلكاتهم من قبل عصابات الجيش والشرطة والحشد الشعبي، بحجة العمل على بسط الأمن وحماية مكتسبات العملية السياسية.

اختلاف بعض سياسات العبادي عن المالكي لا يعني أنهما مختلفان في المنهج، بل يمكننا أن نجزم بأن العبادي سائر في ذات سياسات المالكي، والواقع العراقي المضطرب بحاجة إلى أفعال جادة وإرادة حقيقية لتغيير الأوضاع المتآكلة سياسياً وأمنياً، ولا أظن أن التصريحات الإعلامية والخُطب الرنانة كافية لتحقيق هذه الأهداف التي صارت حلماً بعيد المنال في حسابات المواطن العراقي الضائع بين مطرقة الإرهاب الرسمي وسندان الإرهاب غير الرسمي!

أعتقد أنه -ومع استمرار سياسة الكيل بمكيالين- فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة ما دام هنالك من ينظر لمن يحمل السلاح -حفاظاً على روحه وعرضه وممتلكاته- على أنه "إرهابي" لأنه من الطرف المخالف له، بينما في الطرف الآخر ينظر له على أنه "مجاهد"، ولمن يقول الحق باعتباره "مثيرا للفتنة"، بينما في الطرف الآخر يعتبر "سيفاً مصلتاً على الباطل"، وما دامت هذه السياسات السقيمة موجودة؛ فإنه لا يمكن أن ينطلق القطار العراقي على السكة الصحيحة التي لا ندري متى سيكتمل بناؤها؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العراقيّون وكِذْبَات نيسان والتناحر المُرتقب!

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!