بين العقاب والابتلاء!


العراقيون اليوم في محنة كبيرة، وهي ليست وليدة الساعة، بل ركام سنوات عجاف. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، والعراق من بلاء إلى بلاء، حتى وصلنا إلى البلاء الأكبر باحتلال العراق وتدميره في العام 2003.
هذه المحن والكوارث ينظر لها بعض العقلاء على أنها عقاب رباني، بينما ينظر لها آخرون على أنها ابتلاء رباني، وينظر لها طرف ثالث على أنها مؤامرة دولية لإخراج العراق من المعادلة السياسية في المنطقة والشرق الأوسط، ومن ثم تمزيقه وتقسيمه. وينظر لها طرف رابع على أنها نتيجة طبيعية لبلاد وقف بعض أهلها مع المحتل ضد إخوانهم. وهكذا تختلف زوايا النظر للقضية العراقية، والنتيجة واحدة: شعب يُنحر ويهجر أمام مرأى ومسمع القاصي والداني.
سبق وأن أجريت لقاءً صحفياً مع الأستاذ الدكتور عبدالملك السعدي، وسألته: هل ما جرى -ويجري- في العراق ابتلاء أم عقوبة؟ فرد الشيخ حفظه الله: "هو ابتلاء وعقوبة: ابتلاء على العراقيين الأصلاء الشرفاء الوطنيين الحريصين على سلامة العراق ووحدة أهله وأرضه وحريته. وهو عقوبة على المارقين عن طريق الحق، ولا يمتلكون أي قيم إسلامية أو إنسانية. وكذلك عقوبة على الساسة الذين لا هم لهم إلا المناصب وكسب المال والحصول على الجاه، ولو على حساب بلدهم وأهلهم وبني جلدتهم".
ما يجري في العراق اليوم -بغض النظر عن كونه عقاباً أم ابتلاءً- يمكن التخلص منه عبر الوسائل الآتية:
- التكاتف المجتمعي باعتباره ضرورة ملحة في المرحلة الحالية، على الرغم من المحاولات الحثيثة الهادفة إلى إحداث شرخ اجتماعي كبير في بنية المجتمع. والتثقيف بأن التسليم لهذه المحاولات هو جزء من المساهمة في تحقيق أهداف الغزو، ومطامع أعداء العراق.
- العمل الجماعي لبيان حقيقة مجريات الأمور في البلاد. وهذا العمل يقع بالدرجة الأولى على كاهل الكفاءات وعموم العراقيين المتواجدين خارج الوطن.
ويتحقق ذلك بالعمل -كل من موقعه وتخصصه- لكشف حجم المؤامرة التي تحاك ضد العراق. فالعسكريون يساهمون في كشف الحقيقة عبر المساهمات الإعلامية، وكذلك بقية صنوف المجتمع من الحقوقيين والمعلمين والتجار ورجال الأمن والفلاحين. والجميع يعملون خلية عمل واحدة هدفها كشف الحقيقة للعالم، وإظهار حجم الخراب الذي لحق بالعراق في عموم مجالات الحياة المدنية والعسكرية.
- استغلال وسائل التواصل الاجتماعي -"فيسبوك" و"تويتر" و"تليغرام" وغيرها- لنشر صور الخراب الذي لحق بالعراق، ودعوة المجتمع الدولي إلى المساهمة في إيقاف نزف الخراب المادي والمعنوي الذي لحق بالعراق.
- عدم التباكي على الماضي، لأن الشعوب الحرة تكبو ولا تموت، وما من أمة من الأمم أو شعب من الشعوب إلا وقد دارت عليه الأيام مثلما دارت علينا. ورأينا كيف أن الشعوب الحرة نهضت ثانية من كبوتها، وعادت من جديد إلى مصاف الدول المميزة. وهكذا، نحن العراقيين، علينا أن نجعل من الماضي سبباً للاندفاع نحو العمل لإعادة الوطن إلى سابق عهده المليء بالخير والحب والوئام، وأن لا نجعل من الماضي القريب والبعيد سبباً لتدمير الأمل، بل -على العكس تماماً- نجعل منه دافعاً نحو البناء والإصلاح.
- عدم انتظار العون من خارج العراق، وجعل الجهود الذاتية الداخلية هي الباب لفتح التعاون الخارجي، لأن الحكمة تقول "ما حك جلدك مثل ظفرك". وبالتالي، لا يمكن تصور أي اهتمام حقيقي من غير أبناء الوطن النازف الجريح.
وحينما نتكاتف من أجل التغيير، حينها سنجد من يقف معنا من أحرار العالم، لأنهم يحترمون الأقوياء المتحدين، ويتجاهلون الضعفاء المتفرقين. ولنجعل من تكاتفنا سراً من أسرار مضيّنا في طريق بناء الوطن.
هذه اللبنات القوية والدقيقة يمكن أن نؤسس عليها وننطلق منها باتجاه إعادة بناء العراق، على الرغم من هذا الكم الهائل من الخراب واليأس والقتل والتهجير والاعتقالات والسياسات الطائفية المقيتة.
رغم تزاحم المعاناة والأوجاع، يبقى الأمل يملأ الروح والفكر بغد عراقي مشرق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

السفارة البريطانيّة ببغداد... ودبلوماسيّة (الأكلات العراقيّة)!

العيد وسياسات التغريب عن الأوطان!