قرارات العبادي!


القرارات العاجلة والاضطرارية التي اتخذها رئيس الحكومة العراقية السيد حيدر العبادي والهادفة لامتصاص غضب الشارع العربي الجنوبي (الشيعي) الناقم على تردي الخدمات، ودمار البنى الفوقية والتحتية في أكثر من ثماني محافظات، تُعد خطوة صحيحة في الاتجاه البنّاء في مسار تصحيح الأوضاع المتردية في بلاد الرافدين، وهي تستند إلى صلاحيات رئيس الوزراء بموجب المادة (78) من دستور البلاد.
الفساد المالي والإداري بات اليوم ينخر جسد الدولة العراقية بشهادة منظمات دولية وإقليمية ومحلية، وعليه فإن هذه القرارات الحكومية، التي وافق عليها مجلس الوزراء، والتي هي بحاجة لموافقة البرلمان ( الذي لم يختتم أعماله حتى ساعة كتابة هذا المقال)، تهدف لتقليص الهدر العلني في الميزانية المتهالكة، ومحاولة للحد من الفساد والتبذير الواضح في موارد البلاد، التي تُهدر في كل ساعة بحجج مختلفة.
ورقة العبادي الإصلاحية، المدعومة من المرجعية الشيعية في النجف، شملت عدة محاور، وكانت على النحو الآتي:
أولاً: محور الإصلاح الإداري
ثانياً: محور الإصلاح المالي
ثالثاً: محور الإصلاح الاقتصادي
رابعاً : محور الخدمات
خامساً: محور مكافحة الفساد.
وعليه يمكننا دراسة بعض فقراتها بشكل مقتضب؛ وذلك لأن محاولة دراستها  بصورة كاملة بحاجة إلى بحث مكثف، ولذلك سنركز هنا على أهم بنود الورقة، وذلك على النحو الآتي:
1.    قرار إلغاء مناصب نواب رئيس الحكومة، ورئيس الجمهورية.
يمكن النظر إلى هذا القرار على أنه خطوة جريئة اتخذت بالاتفاق ما بين الكتل السياسية؛ لأن الشخصيات التي شُملت بالعفو من مناصبهم هم من أركان اللعبة السياسية العراقية، وعليه لا يمكن للعبادي أن يهمل، أو يهمش أدوار هؤلاء بسهولة.
ولعل من أبرز الشخصيات التي شملت بالتغيير نائبي رئيس الجمهورية نوري المالكي رئيس الوزراء السابق، وأسامة النجيفي رئيس البرلمان السابق، وأياد علاوي، فضلاً عن بهاء الأعرجي، وصالح المطلق نائبي رئيس الحكومة، فهل سيوافق هؤلاء على قرارات العبادي دون مشاغبات سياسية عبر كتلهم في داخل مجلس النواب؟!
وأيضاً يمكن النظر للقرار على أنه إما صفحة من صفحات الاتفاقات، أو التوافقات السياسية المستمرة في العراق، لكن هذه المرة يُراد منها تهدئة الشارع، ولو على حساب بعض التضحيات الطفيفة، أو الجسيمة التي ستلحق هذا الطرف السياسي، أو ذاك.
أو أن سياسيي بغداد تفهموا أن الغضب الجماهيري، ربما سيصل لأسوار المنطقة الخضراء؛ وبالتالي سيقلب الطاولة على الحكومة والبرلمان، وهذا ما لا تريده إيران، التي تعتبر بغداد عاصمة تابعة لها، بحسب تصريحات أكثر من مسؤول إيراني، وما لا تريده الولايات المتحدة؛ على اعتبار أنها الراعي الأول للعملية السياسية، وهي التي بنتها على أنقاض الدولة العراقية السابقة.
وبعيداً عن احتمالات الاتفاق خلف الستار، فإن الدستور العراقي يمنح رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء نائباً واحدة، وبالتالي فإن إصلاحات العبادي بحاجة إلى تعديلات دستورية قبل أن يتم الموافقة عليها في البرلمان في جلسة علنية تعقد اليوم الثلاثاء 11/ آب/ اغسطس، 2015، كما أعلن رئيس مجلس النواب سليم الجبوري، وعليه أظن أن ورقة الإصلاحات ستواجه بعقبات دستورية، وهذا يعني أنها – ربما- بحاجة إلى وقت أطول للمصادقة عليها.
قرار  العبادي المتعلق بإلغاء المناصب لم يتضمن أية إشارة للرواتب الخيالية، التي يتقاضاها هؤلاء المسؤولين، وكذلك لم يتناول أعداد الحمايات، التي يمكن أن تبقى حولهم!
2. القرار الثاني المتعلق بتقليص شامل وفوري في أعداد الحمايات لكل المسؤولين في الدولة،ـ بضمنها الرئاسات الثلاث، والوزراء، والنواب، والمحافظين، وأعضاء مجالس المحافظات، ويتم تحويل الفائض إلى وزارتي الدفاع والداخلية "حسب التبعية لتدريبهم وتأهيلهم للقيام بمهامهم الوطنية".
هذا القرار مهم جداً؛ لأنه سيساهم في القضاء على الهالة الزائفة، والأسوار العالية التي وضعت حول غالبية المسؤولين في الدولة، إذ أن بعضهم - وبالذات الرئاسات الثلاث، ومعهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي- محاطون بأكثر من ألف عنصر أمني، وأيضاً سيساهم هذا القرار في القضاء على الفضائيين، الذين سبق لنائب رئيس الجمهورية أياد علاوي، أن أكد أنهم أكثر من ربع مليون فضائي في وزارة الدفاع فقط!
3.القرار الثالث والمتمثل بـ"إبعاد جميع المناصب العليا من هيئات مستقلة، ووكلاء وزارات، ومستشارين، ومدراء عامين عن المحاصصة السياسية، والطائفية"، وهي خطوة جوهرية، لكنها استثنت المناصب، التي هي أكبر من وكلاء الوزراء والمستشارين، وهذا يعني استمرار تلك المناصب العليا ضمن دائرة المحاصصة السياسية.
وهنا لا بد من التذكير أن المتابع لعموم العملية السياسية، التي جرت في العراق العام 2003، يجد أنها جرت وفقاً للمحاصصات الطائفية والمذهبية؛ وبالتالي فإن هذا القرار - إن أراد السيد العبادي تطبيقه بصورة عملية - يتوجب عليه حلّ الحكومة والبرلمان، وتشكيل حكومة تصريف أعمال، تقوم بمهمة إجراء انتخابات نزيهة، وبإشراف دولي وعربي، وتشكيل برلمان وطني، وبعدها يتم اختيار رئيساً للجمهورية، الذي يكلف بدوره رئيس الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة.
لكن السؤال الذي يطرح هنا هل ستوافق القوى المعارضة لمجمل العملية السياسية الجارية في العراق بعد العام 2003 بنتائج هذه الانتخابات؟
المتابع لمواقف القوى المعارضة يمكنه الجزم بأنها سترفض رفضاً قاطعاً نتائج هذه الانتخابات؛ وذلك لاعتبارات وأسباب موضوعية، منها أن المشتركين فيها – في حال عدم إجراء مصالحة وطنية حقيقية شاملة - هم جزء من المشكلة العراقية؛ وعليه لا يمكنهم أن يكونوا جزءاً من الحل؛ لأنهم فشلوا فشلاً واضحاً في إدارة الدولة، وهذه الانتخابات – المفترضة - هي جزء من التغيير المطلوب، والذي يفترض أن يقتلع الفاشلين والعاجزين. وأيضاً لا يمكن أن تتم العملية السياسية الجديدة بصورة منفردة وبذات وجوه وأقطاب العملية السابقة، وهذا يعني إننا لن نصل إلى حلول نهائية للقضية العراقية المركبة.
4. قرار العبادي الرابع، والمتعلق باعتماد "عدد من القضاة المهنيين المعروفين بالنزاهة التامة بالتحقيق في قضايا الفساد، ومحاكمة الفاسدين، وفتح الملفات السابقة والحالية تحت إشراف لجنة عليا في مكافحة الفساد".
أهم ما في هذا القرار هو تشكيل "اللجنة العليا المكلفة بالفساد"، التي - إن أريد لها أن تعالج بعضاً من الفساد المستشري في البلاد - فيجب أن تكون في منأى عن الضغوط السياسية لكتل المتهمين بالفساد؛ لأن هذه اللجنة - إن لم تعط صلاحيات قانونية قوية - فإنها ستولد ميتة، ولن يتم محاسبة أي متهم؛ لأن سلطة وسطوة الضغوط السياسية أقوى من سلطة القانون المهمشة بالضغوط السياسية، وهذا من أهم أسباب عدم مكافحة الفساد في العراق حتى الآن.
والسؤال الآخر الذي يطرح هنا: هل هذه الإصلاحات جوهرية، وتلبي مطالب الشارع العراقي؟
لا شك أن هذه الإصلاحات جريئة، لكن القضايا التي عالجتها قرارات السيد العبادي لا يمكن أن تعالج أكثر من عشرة بالمائة من المشهد العراقي المتردي؛ لأن الإصلاحات المطلوبة تتطلب تغييراً شبه جذري لعموم الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والتعليمية في البلاد؛ وباعتقادي فإنه يمكن لحكومة السيد العبادي أن تنطلق بالعراق نحو بر الأمان إن هي حاولت تطبيق الآتي:
1-   حلّ الحكومة وتشكيل حكومة تصريف أعمال وفقاً للخطوات التي ذكرت آنفاً في الفقرة الثالثة من هذا المقال.
2-   تشكيل لجان قضائية مهنية غير مسيسة تزور السجون والمعتقلات وتعيد التحقيق في ملفات السجناء الأبرياء، الذين يشكلون بحسب شركاء الحكومة نسبة ليست قليلة من أعداد هؤلاء السجناء؛ لأن إنصاف المواطنين جزء من الحلول الجذرية.
3-   كف يد المليشيات من عموم المشهد العراقي، وتقديم القتلة والمجرمين منهم لمحاكم وطنية.
4-   إطلاق مبادرة وطنية للمصالحة الشاملة والكاملة، وتكون برعاية الجامعة العربية وتهدف للم شمل القوى العراقية المعارضة والمشاركة في العملية السياسية، على أن يستثنى من المشاركة كل من تلطخت أيديهم بدماء وأموال العراقيين.
5-   يمنع سفر المسؤولين من درجة مدير عام فما فوق وجميع المتهمين بقضايا القتل والفساد حتى تنهي لجنة مكافحة الفساد أعمالها.
6-   تشكيل لجنة إنصاف المظلومين من جميع المحافظات، وإقرار قانون العفو العام، وترتيب خطة وطنية لاعمار المدن، وإعادة والأموال المنهوبة، وإعادة جميع الموظفين إلى دوائرهم، سواء كانوا في داخل العراق، أو خارجه، واحتساب سنوات الهجرة ضمن الخدمة الفعلية لهم.
هذه الخطوات إضافة للخطوات التي تضمنتها الورقة، التي لم يركز عليها الإعلام، ومنها، ترشيق الوزارات والهيئات، وإخضاع الوزارات إلى المساءلة والمحاسبة، وإلغاء مواقع المستشارين في الوزارات، وإلغاء الفوارق في الرواتب، وتخويل رئيس مجلس الوزراء صلاحية إقالة المحافظين، أو رؤساء المجالس المحلية، ومعالجة التهرب الضريبي، وحسم مشاكل الكهرباء. أعتقد أن هذه الخطوات العملية وغيرها - إن طبقتها الحكومة- يمكن أن تكون أساساً متيناً لبناء أرضية صلبة لعراق جديد خالٍ من الإرهابيين والمجرمين والسراق والقتلة. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى