جرائم تحت ضوء الشمس!


جرائم القتل الجماعي في عالمنا الكبير، الذي أصبح قرية صغيرة بفعل التطور الهائل في التكنولوجيا والاتصالات، صارت تنقل مباشرة عبر الفضائيات التلفزيونية والإنترنت لحظة بلحظة. وعلى الرغم من هذا التطور، ما نزال نسمع بجرائم تُرتكب بهدوء تام، وتحت ضوء الشمس، من عصابات الجريمة المنظمة، المدعومة بتجاهل مطبق من المسؤولين عن الأمر، ومن دون أن يسلط الضوء عليها.
عموم الأوضاع العراقية تظهر اختفاءً شبه تام للدولة عن الميدان. وفي المقابل، يلمس المتابع انتشاراً واضحاً للمليشيات في مناطق حزام بغداد وديالى وصلاح الدين، وعموم محافظات الجنوب.
جرائم  المليشيات المستمرة في ديالى تُثبت أن الدولة تمر بمرحلة الانهيار التدريجي. فمنذ عشرة أيام تقريباً، والمليشيات المدعومة بقوات الجيش، تُسقط قذائفها القاتلة الحارقة على المدنيين العزل في قرية المخيسة والقرى المجاورة لها، والغاية هي الانتقام والتهجير. والظاهر للعيان أن الحكومتين المركزية في بغداد، والمحلية في ديالى، لم تتدخلا -حتى اللحظة- لإيقاف تطويق هذه القرى وإبادة أهلها، وكأن ما يجري هناك لا يعنيهما.
الخراب المليشياوي في ديالى، يقابله غياب واضح في الخدمات، ودمار البنى الفوقية والتحتية في المحافظات الجنوبية، التي دخلت منذ أيام في مرحلة المظاهرات الرافضة للفساد المالي والإداري، والمطالبة بمحاسبة المفسدين، وهي المظاهرات التي لا أظنها ستتوقف بتخديرات إعلامية، بل هي عازمة على هزيمة الفساد، وتصحيح مسار العملية السياسية.
الفساد المالي والإداري صار السمة الأبرز في عموم إدارة "الدولة العراقية". ومن أبسط صوره، ما كشفته قبل أيام لجنة الأمن والدفاع البرلمانية، بأن "العراق أنفق، خلال ثماني سنوات، ما يزيد على 145 مليار دولار على مؤسساته الأمنية، وأن مئات المدرعات العسكرية التي اشتراها العراق من أوكرانيا في عهد حكومة نوري المالكي السابقة، أصبحت اليوم مكباً للنفايات في معسكر التاجي ببغداد، لكونها مدرعات من الركام ومستهلكة". فمنْ تعاقد عليها؟! وكيف اجتازت اختبارات اللجان المختصة؟!
ما يجري في جنوب العراق الآن، ارتقاءٌ مميز في مسار العمل الجماعي المناهض للسياسات الطائفية والتخريبية المستمرة منذ العام 2003، وثورة على الفساد الإداري، وردة فعل طبيعية لحجم الدمار المستشري في البلاد.
واليوم، يحاول بعض السياسيين ربط الفساد بنهب الأموال فقط، وكأن المشكلة العراقية هي مشكلة أموال لا غير. وهذا الكلام جزء من الحقيقة، فيما الحقيقة الكاملة أن الفساد وصل لغالبية مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والاجتماعية والتربوية. وبالتالي ينبغي أن يكون التغيير جذرياً.
وعليه، أعتقد أن المطلوب من المتظاهرين الوطنيين اليوم هو:
- الحفاظ على سلمية المظاهرات، وعدم إعطاء المجال للمندسين لقلب الطاولة على المتظاهرين. وعدم التعرض للممتلكات العامة والخاصة، حتى لا تُغتال المظاهرات، ونفتح الباب لإجهاض هذا العمل الوطني الشعبي، والابتعاد عن الأساليب الهمجية والتهور والانتقام، والسعي لأن تكون هذه المظاهرات واحدة من الأحداث الحضارية التي ستكتب بماء الذهب في التاريخ العراقي الحديث.
- الابتعاد عن الشعارات الطائفية، وإفشال الدعوات والهتافات والمشاريع السياسية التقسيمية المدمرة لوحدة العراقيين.
- المطالبة بإنهاء تواجد المليشيات، التي صارت هي الحاكم الأبرز في الشارع العراقي، والقوة الأولى في البلاد، والمتحكمون بها "لهم مناصب حكومية عليا"، كما صرح بذلك فرج موسى، الرئيس السابق لهيئة النزاهة العراقية.
- الدعوة لمحاسبة المسؤولين كافة عن جرائم الفساد، بغض النظر عن مناصبهم وانتماءاتهم الحزبية؛ وعدم السماح لهم بالسفر خارج البلاد، حتى يتم تشكيل لجان قضائية وطنية نزيهة تميز المفسد من المصلح.
- عدم السماح لرجال الدين والسياسيين المشاركين في العملية السياسية بركوب موجة المظاهرات، وهم كانوا -وما يزالون- سبباً رئيساً في الانحطاط المنتشر في بلاد الرافدين؛ وعليه لا يُسمح لهم بالادعاء بأنهم مع الشعب، وإلا لو كانت هذه حقيقتهم لما أوصلوا الأمور إلى هذه الدركات المتدنية من الفشل والتآكل والدمار.
هذه الأسباب وغيرها ستكون عوامل نجاح ودعم لهذه المظاهرات الشعبية، التي نأمل أن تكون بداية الإصلاح والتغيير والبناء للعراق المبتلى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العراقيّون وكِذْبَات نيسان والتناحر المُرتقب!

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!