قواعد عسكرية ودمار وطن!



القواعد العسكرية واحدة من الأدوات الفعّالة التي تستخدمها الدول العظمى في بسط نفوذها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية في مناطق مختلفة من هذا العالم الشاسع، وبالذات المواقع ذات الأهمية الجيوسياسية.
والولايات المتحدة الأميركية، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نشرت عشرات القواعد العسكرية في أرجاء العالم، منها قواعد ثابتة ومتحركة في ألمانيا واليابان والخليج العربي، وغيرها من البقاع المهمة في قارات العالم الخمس.
قبل احتلال العراق في العام 2003، لم يكن لأميركا أي تواجد عسكري على أرض العراق، وكانت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين -على الرغم من قصرها النسبي- قائمة على الاحترام وتبادل المصالح، حتى مرحلة انقطاعها بعد الغزو العراقي للكويت.
بعد احتلال العراق في العام 2003، رتبت الولايات المتحدة عشرات القواعد العسكرية الثابتة في بلاد الرافدين. وهناك بعض خبراء يؤكدون أن أعداد تلك القواعد قد تجاوزت المائة، فيما يؤكد آخرون أنها لا تزيد على خمسين قاعدة. وأظن أن الرقم الأخير أقرب للواقع؛ وذلك لأن تلك القواعد بنيت في معسكرات الجيش السابق، وقواعد القوة الجوية، وهي بمجموعها مقاربة للإحصائية الثانية.
في العام 2008، وقعت الولايات المتحدة اتفاقية أمنية مع حكومة نوري المالكي عرفت باسم "سوفا"، للحفاظ على مصالحها بعد انسحابها المرتقب حينها. وهي بالوقت ذاته تشكل ركيزة أمنية مهمة لحكومة بغداد للحفاظ على العملية السياسية من المخاطر المحيطة بها.
الاتفاقية تضمنت بنوداً عائمة وغير دقيقة، يحق بموجبها للولايات المتحدة أن تتواجد بسقف زمني غير محدد في الأراضي العراقية.
وسبق أن نشرتُ دراسة حول هذه الاتفاقية ذكرتُ فيها أنه: "ورد في الفقرة الخامسة من المادة الرابعة: "يحتفظ الطرفان بحق الدفاع الشرعي عن النفس داخل العراق، كما هو معروف في القانون العراقي النافذ".
وهذا يعني أن القوات الأميركية المتواجدة حالياً، والقادمة مستقبلاً، تمتلك -بموجب هذه الاتفاقية- "السلطة القانونية" للعبث بأرواح العراقيين بحجة "الدفاع الشرعي عن النفس داخل العراق"!
حينما وُقعت الاتفاقية الأمنية "سوفا"، أُثيرت بشأنها موجة من الانتقادات الشعبية والسياسية من قوى معارضة للحكومة، على اعتبار أنها تمثل احتلالاً مفتوحاً متوقعاً في أي لحظة، وهذا ما بدأنا نلمسه هذه الأيام.
ففي الأسبوع الماضي، كشف رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي، عن استراتيجية بلاده لمحاربة تنظيم "داعش"، مؤكداً أن "خطة "ورد النيل" تتضمن إنشاء قواعد عسكرية جديدة في العراق، وأن الخطة التي أعلنتها واشنطن مؤخراً لتأسيس قاعدة لقواتها في معسكر التقدم قد تستخدم في أماكن أخرى في العراق". والغريب أن البيت الأبيض أعلن في اليوم التالي: "عدم وجود خطط جاهزة حالياً لفتح المزيد من القواعد في العراق"!
تصريحات ديمبسي لم تأت من فراغ، وليست اجتهاداً شخصياً، لأن الرجل هو رئيس أركان الجيش الأميركي، والولايات المتحدة هي دولة مؤسسات لا يمكن فيها لأي مسؤول أن يتحدث من جعبته الخاصة. وهذا يعني أن هناك قراراً أميركياً بالعودة ثانية إلى العراق، خصوصاً أن تصريح ديمبسي جاء قبل يومين من تأكيد الرئيس باراك أوباما أن أميركا سترسل 450 عسكرياً إضافياً للعراق.
التواجد الأميركي على أرض الرافدين لن يحقق مصالح العراقيين، وإنما مصلحة أميركية كبرى للحفاظ على توازن القوى في المنطقة، ولديمومة مصالح الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي الغنية بالنفط. وربما هو إجراء فني لتعويض فقدانها -المتوقع- لبعض قواعدها في المنطقة نتيجة الرفض الشعبي لهذا التواجد مقابل الترحيب الحكومي العراقي بمثل هذه القواعد.
تواجد هذه القواعد سيزيد من تعقيدات المشكلة العراقية، وسيدخل العراقيين في نفق أطول من النفق الحالي، وأكثر عتمة منه. فالقواعد الجديدة لن تساهم في حسم الخلافات بين العراقيين، لأن أصل المشكلة العراقية أنها مشكلة سياسية قبل أن تكون أمنية.
ولا ندري إلى أين تريد الولايات المتحدة جرّ العراق، وهي التي أدخلته في مأزقه الحالي؛ فهل ما خسرته بلاد الرافدين لم يُشبع أطماع الكارهين للعراق وأحقادهم؟!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى