عقول بين انتظار الموت أو الهجرة



تعرضت صباح اليوم لاعتداء سخيف، من قبل شرطة يعملون ضمن دورية مشتركة في شارع أبو نؤاس مقابل برج بابل في بغداد، لا خيار لديّ سوى الكف عن كل شيء في بلد لا يكون فيه المرء محترماً”.
والحكاية أن: “شرطياً نزقاً ساعده ضابطان أكثر نزقاً منه، وجميعهم بعمر أولادي، لم تكن من مهمة يقومون بها سوى الإذلال والاعتداء، حتى رفع الأيدي في محاولة منهم لتطوير المشكلة إلى عراك، تفاديته احتراماً لنفسي في مكان عام، والأمر ما كان ليمر بسلام -بعد ساعة من الجدل، والكلام السخيف، والتهديد بالاعتقال- لولا حسن تصرف شاب مدني كان ضمن السيطرة، وهو من عناصر الاستخبارات، كما أتوقع، بلداً كهذا لا يستطيع فيه إنسان مثلي الاطمئنان، ليس على حياته فحسب، وإنما حتى على كرامته، لا خيار فيه سوى الكف عن كل شيء”.
“سأعتكف في بيتي، سأتوقف عن الكتابة نهائياً، سأنهي علاقتي بعملي، سأنتظر الموت، أو أغادر البلد في أي فرصة، أنا لم أضر أحداً بمثل هذا الموقف، لكنه الخيار الوحيد الذي يَقْبُر فيه الإنسان نفسه، ويقبر معه كرامته؛ حتى لا يلوثها سفهاء وجهلة”. انتهى.
ما ذكرته ليست قصة من الخيال العلمي، وإنما هي حادثة حقيقية تعرض لها الشاعر والصحفي العراقي (عبد زهرة زكي)، منتصف الشهر الأول من العام الحالي، والذي قرر اعتزال الكتابة احتجاجاً على اعتداء تعرض له من قبل بعض أفراد الشرطة في شارع أبو نؤاس وسط بغداد، وقرر الاعتكاف في منزله بانتظار الموت، أو مغادرة البلد؛ لكي لا يلوث “السفهاء” كرامته.
ويعد زكي من أبرز شعراء جيل ما بعد الستينيات، عمل في الصحافة منذ ثمانينيات القرن الماضي كمحرر ثقافي في أكثر من صحيفة، ورئيس تحرير إحدى الصحف المحلية الحكومية الكبيرة، وله عدة دواوين شعرية.
الذي دفعني لإعادة سرد هذه الحكاية، هو استمرار استهداف الكفاءات والعقول العراقية، سواء بالقتل، أو الاعتقال، أو التهجير، أو الاهانة، وآخر هذه الجرائم، الجريمة التي وقعت منتصف الأسبوع الماضي، حيث قتل الجيش الحكومي الدكتور جمعة هاشم الفهداوي، بإطلاقة قناص برأسه، في منطقة الفلاحات في الخالدية بمحافظة الأنبار، وهو أخصائي كسور، ومن أطباء مستشفى الفلوجة، الذين وقفوا وصبروا من أجل خدمة أبناء المدينة على الرغم من كل القصف الحكومي الجنوني للمستشفى والمدينة.
مصادر مقربة من عائلة الفقيد أكدوا لبعض وسائل الإعلام أن حادثة اغتيال الفهداوي جاءت بعد يومين من مشادة كلامية وقعت بين الفهداوي وضابط في الجيش الحكومي في نقطة تفتيش بمنطقة الفلاحات، يدعى النقيب عبد الهادي الياسري، وهو ضابط استخبارات اللواء الثاني والثلاثين الفرقة الثانية، الذي ابلغه بأنه لن يسمح له، ولا لكوادر مستشفى الفلوجة التعليمي بعبور نقطة التفتيش، وأن الفهداوي أبلغ أهله بهذا التهديد!
استهداف الكفاءات تقف وراءه المليشيات المدعومة من قبل الحكومة، التي ارتدت الزي الرسمي للأجهزة الأمنية، والمسؤولية الأكبر تقع على كاهل الحكومة باعتبارها المسؤول عن حماية عموم المواطنين، ومنهم الكفاءات.
تغول المليشيات في العراق أكدته منظمة العفو الدولية في بيان لها نهاية الشهر الماضي؛ إذ بينت أن” الميليشيات -ومن يقف وراءها- اتخذت من حرب التحالف الدولي ذريعة وغطاءً لتنفيذ مخططاتها وممارسة أنشطتها”.
وأضافت المنظمة: “.. وفي مشهد مرعب؛ تصل الجثث إلى المشارح بعد بضعة أيام، وأيديهم ما زالت مكبلة خلف ظهورهم مع أعيرة نارية داخل الرأس، أما القوات الحكومية العراقية فهي تسهل ارتكاب الجرائم وتسمح للمليشيات الشيعية الطائفية بالإفلات من العقاب”.
الحفاظ على العقول العراقية هو جزء من الخطة الوطنية المفقودة حالياً؛ للحفاظ على ثروات البلاد، وهذه العقول هي أثمن ما يملك العراق بعد الحفاظ على أرواح عموم المواطنين وأعراضهم، وإلا لا يمكن تصور بناء الدولة في ظل حالة الهروب الفكري، واغتيال الكفاءات المستمر في البلاد. فإلى متى سنبقى نفقد هذه العقول الوطنية والكفاءات المخلصة؟!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى