رسالة مفقود عراقي إلى أمه



أمي الحنونة تحية طيبة لك، وسلام من الله عليك أينما كنت، ولا اعرف، فداك روحي- هل أنت من الأحياء، أم من الأموات، مثلما انك لا تعرفين مصيري منذ أن غادرت بيتنا قبل سنتين؟!!
أمي أتذكرين حينما خرجت من البيت ذاهباً لجامعتي في يوم تخرجي.
ولم اعد إلى بيتنا الطيب حتى الآن. في طريقي للجامعة أوقفني مجموعة من المسلحين الرسميين في نقطة تفتيش عسكرية حكومية، وطلبوا هويتي الشخصية التي أكدتِ عليّ أن لا أنساها لأعود إليك سالماً، وما أن أعطيتهم هويتي - يا أمي - حتى طلبوا مني الترجل من السيارة، وبقية الركاب لا يتكلمون خوفاً من الاعتقال، وحينما نزلت وجدت نفسي في عالم آخر، فانا الشاب المليء بالأحلام والرجولة سمعت من الشتائم والمسبات على شرفي وعرضي مالم أكن أتوقع أن أذني تتقبله، المهم يا أمي اقتادوني لسيارة مكشوفة، وأخذوني معصوب العينين إلى مكان لا اعرف هل هو بيت، أم معتقل، وهل كنت في العراق، أم في بلد آخر؟!!

أمي الحنونة:-
حينما وجدت من بين الحرس منْ يملك بعض الغيرة والنخوة، وطلبت منه أن يوصل لك هذه الرسالة، غامرت بروحي من اجل هذه الورقة؛ لأنني لم أكن أتوقع أن يكون من بين هؤلاء القتلة رجل طيب يحمل ذرة من الغيرة، إلا أنني حمدت الله ملايين المرات لأنني ما زلت على قيد الحياة بعد أن مرت بضعة أيام دون أن أُعاقب، أو أُقتل بسبب هذه الرسالة.

أمي الطيبة:-
مرت أيام وأيام، وأنا لا اعرف هل سيقتلونني أم لا، ولا أعرف هل يريدون فدية منكم، أم أن الأمر للتخويف فقط؟
وأنا منذ عامين، وأنا ميت بين الأحياء لا أدري بأية لحظة يدخل عليّ منْ يُفرغ مسدسه براسي لينهي ماساتي وماساتكم.
أعيش على كسرة من الخبز وقدح من الماء وصحن نصفه فارغ، والنصف الآخر في آخره بعض حبات من الرز الممزوجة بالمرق.

أمي الغالية:-
أنا اقبل الأرض التي تحت قدميك، من أجل أن ترضين عني، أرجوك من أجل حبك لي سامحيني إن كنت في يوم من الأيام قد أزعجتك، سامحيني فان حبك هو الحب الصادق والفريد في هذه الدنيا، وكل ما سوى حبك هو حب ربما يكون في غالبه مليء بالزيف والزور.

أمي الحبيبة:-
حينما وصلت إلى القبو، أو السجن، أو المعتقل عرفت - فيما بعد - انه لأحد الأحزاب الطائفية وتعرفين يا أمي انه – مع الأسف الشديد – في أرقى المناطق العراقية، هل تصدقين يا أمي إنني أحياناً اسمع أصوات الآذان والأغاني والدبكات العراقية، والضحكات الطفولية، البريئة والصرخات القاسية القاتلة، وكلها كانت قريبة مني.

لم أكن أتوقع إن ما حصل - ويحصل لي - هو حقيقة يمكن أن تقع في بلادنا، ومن رجال يقولون نحن من العراقيين؟!!
هؤلاء القتلة يدعون أنهم من العراقيين، لا يا أمي أنهم ليسوا منا هم غرباء يحملون الهوية العراقية، ومصيرهم الذل والخذلان والهزيمة بقوة الله، ثم بوحدتنا وحبنا لبلادنا.

أمي الطيبة الحنونة:-
روحي فداك، روحي فداء للعراق الغالي، لا تهتمي يا أمي المهم أنت بخير، والعراق بخير.
يا أمي إن قدر الله لي أن أعيش فسأعود لك، وسأبقى خادماً لك طوال عمري، وإن قدر الله لي أن أموت مظلوماً، فهذا قدري، فاقبل يديك يا أمي، واطلب منك أن لا تحزنيِ على فراقي، واكتبوا على قبري (هذا قبر الشاب فلان الذي ظلم من أبناء جلدته، سلمهم، وسلم أمره لله الواحد الأحد).

أمي أوصيكم إن مت أن لا تأخذوا بثأري منْ أي أحد من أبناء جلدتي، حتى لو عرفتم قاتلي؛ لأنني من أجل ديننا، ومن أجل حبي للعراق سامحته، وتنازلت عن دمي في الدنيا، والله يحكم بيننا في الآخرة.
فأرجوك يا أمي سلمي لي على أخوتي، وقولي: لهم إنني أحبهم في الله، وأرجوكم نفذوا وصيتي.

أمي سلمي لي على كل أهل محلتنا، أنا أعرف أنهم يحبونني وأنا أحبهم، وقولي لهم منْ قتلني لا يمثل أي احد من العراقيين، ونحن على عهد الأخوة والمحبة بيننا.
أما زوجتي فقولي لها إنني أحبها، وقدري أن اتركها مرغماً، وقولي لها لا تحزني عليّ، فإنني لن أنساها، وستبقى هي الحبيبة الأولى والأخيرة، أتمنى أن أعود لك ولها.
أمي إنني مشتاق لكل الأحبة، ولبيتنا الجميل، ولأصدقائي، ولمسجد الحي، ولكل الناس الطيبين.

وصدق القائل:-
سلاماتٌ .
سلاماتٌ .
إلى بيت سقانا الحب والرحمة
إلى أزهارك البيضاء
إلى تختي …
إلى كتبي …
إلى أطفال حارتنا …
وحيطان ملأناها …
يا أمي ادع لي لعل الله يرحمني برحمته وأعود لك لأخدمك واخدم بلدي الحبيب، اللهم أمين.
Jasemj1967@yahoo.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

حكاية منظّمات المجتمع المدنيّ العراقيّة!

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى