"الامبريالية" الجديدة!

 

مُلِئَت كتب التاريخ والسياسة ببعض المصطلحات البغيضة، التي كنّا نعتقد أنه قد انتهى عهدها ومنها الرجعية والامبريالية الكولونيالية، الاستعمارية، وغيرها من المصطلحات المرتبطة بالاستعمار وتدمير الدول وسحق الحقوق الإنسانية والتاريخية من طرف القوى المتسلّطة!

وتوهّمنا بأن غالبية الميادين السياسية، والعقول التي تُدير العالم، وقواميس العلاقات الدولية، والصالونات الثقافية قد غادرت تلك المصطلحات التوسعية، كونها قائمة على سياسات "همجية سقيمة" أرهقت الشعوب الفقيرة والمغلوب على أمرها، ولكن يبدو أن الواقع الفلسطيني الحالي أعاد تلك المصطلحات المقيتة للواجهة السياسية، وخصوصا الإمبريالية!

وتُعرّف الإمبريالية (Imperialism) بأنها دعوة لبسط السلطة والهيمنة عن طريق الاستحواذ المباشر على الأراضي، أو بفرض السيطرة السياسية والاقتصادية على دول أخرى.

والإمبريالية سياسة توسعية استخدمتها الدول القوية الكبرى للسيطرة على مُقدّرات الدول الضعيفة الهشّة، ونَفّذتها بالتدخّل العسكري الكلّيّ المباشر أو التحكّم الجزئي غير المباشر عبر دعم الانقلابات العسكرية في الدول المُستهدفة!

والامبريالية الاستعمارية برزت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتمثّلت بالاستعمار والاحتلال التامّ لدول آسيوية وأفريقية والهند وغيرها.

وهذه الإمبريالية "الشائعة" تَحوّلت، لاحقا، إلى الإمبريالية الاقتصادية المتمثّلة بالشركات المتعدّدة الجنسيّات، وقروض البنك الدولي، والتحكّم بالأسواق العالمية وبغالبية مصادر الموارد الطبيعية وأسواقها، والتلاعب بالعقول بواسطة الإمبريالية الثقافية والفكرية والتكنلوجية وغيرها!

وحقبة الامبريالية والكولونيالية كانت واضحة لغاية خمسينيّات القرن الماضي ثُمّ تراجعت بوضوح. ولاحقا، وتحديدا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والتفرّد الأمريكي بقيادة العالم، ظهرت سياسات توسعية قائمة على القوّتين العسكرية والاقتصادية، وكانت بأدوات خفيّة، أو بترتيب لأسباب حقيقية ووهميّة لتبريرها!

وعادت "الإمبريالية" اليوم بصورة علنية وغريبة من خلال السياسة الأمريكية الخارجية القائمة على القوّة، والمتمثّلة بقرارات الرئيس دونالد ترامب وفريقه "الحيوي" المستوعب تماما للأفكار "الترامبية"!

وهذه المعاني السياسية المرهقة تتّضح عبر السياسات المتوائمة والمتوافقة ما بين واشنطن و"إسرائيل"، وبرزت بشكل أبرز وأقوى بعد دخول الرئيس ترامب للبيت الأبيض بداية العام الحالي، والتعاطي "المتحيز" مع ملفّ المفاوضات وتطبيق وقف إطلاق النار بين المقاومة و"إسرائيل"!

وبهذا الباب حذّرت افتتاحية صحيفة "أوبزرفر" البريطانية، يوم 23 شباط/ فبراير 2025، من أن حقبة جديدة من "إمبريالية القوّة العظمى التي يُغذّيها الاستبداد والقوميّة المفرطة تَتَكشّف بسبب سلوك الرئيس ترامب الذي عَزّز الإجماع القائم بين السياسيين والدبلوماسيين والمحلّلين الغربيين على أن حقبة جديدة من إمبريالية القوّة العظمى تَتَكشّف"!

وكشفت الصحيفة بأن السياسة العالمية الأمريكية الجديدة "غير المستنيرة" تمثّلت بالطلب المضطرب، الذي لم يلتفت إليه أحد، بإطلاق سراح جميع المحتجزين "الإسرائيليين"، وكذلك الاقتراح "غير القانوني بالاستيلاء على غزّة، وطرد الفلسطينيين لم يزد الأمور إلا سوءا، فضلا عن تعريضه لوقف إطلاق النار، الهشّ أصلا، للخطر"!

وهكذا يبرز بأن عالمنا "المتحضّر" يمشي بخطوات ظاهرة ومتسارعة للعودة لمرحلة الإمبريالية والتغوّل والتسلّط وفرض إرادة القوّة على بعض الدول والشعوب!

إن العلاقات الدولية السليمة يفترض أن تقوم على السيادة المتساوية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتجريم استخدام القوّة في العلاقات الخارجية، وضرورة إنماء العلاقات الدولية على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لجميع الشعوب حقّ تقرير المصير وبدون هذه المبادئ لا يمكن أن تكون تلك العلاقات متينة وصلبة!

التعاطي الأمريكي "المشوّه" مع ملفّ غزة، والانحياز العلني "لإسرائيل" أثبت ضرب البيت الأبيض لغالبية المبادئ الإنسانية التي "ضَمنها الدستور الأمريكي"!

أمريكا، بلا شكّ، قوّة عظمى، ولكنّنا نأمل أن تكون قوّتها لنصرة الشعوب المظلومة ودعمها بعيدا عن سياسات الميل لطرف دون آخر في الموازين الدولية!

نأمل ذلك، ولكنّ الواقع مختلف تماما ولا يتغيّر بالأمنيات فقط!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من ذكريات معركة الفلوجة الاولى

مليون أرملة في العراق الجديد

الذاكرة العراقية على حافة النسيان!