تناقضات!



بعد ثلاثة أيام من سيطرة تنظيم "داعش" على الموصل في حزيران (يونيو) 2014، أعلن المرجع الشيعي علي السيستاني -عبر ممثله عبدالمهدي الكربلائي- "الجهاد الكفائي"، مبيناً أن "طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن الوطن وأهله وأعراضه ومواطنيه، وهو واجب كفائي".
بعدها بشهر تقريباً، وتحديداً في ‏15 تموز (يوليو) 2014‏، أعلنت حكومة حيدر العبادي تأسيس هيئة "الحشد الشعبي"، وربطتها مباشرة برئيس الحكومة، وخصصت لها ميزانية من موازنة الدولة. وقبل عدة أيام، وافق البرلمان على قانون هيئة الحشد الشعبي. وجميع هذه المعطيات تؤكد الدعم الواضح والعلني لمقاتلي "الحشد".
والحشد له العديد من المديريات التابعة له، منها مديرية التوجيه العقائدي، ومن مهامها -بحسب ما جاء على موقعها الرسمي: "الإعداد الديني المثالي للمجاهدين، ورفع المستوى الثقافي والديني لهم، وزيادة وعيهم وبصيرتهم، ورفع روحهم المعنوية والجهادية". وذكرت المديرية أنها تُرسل "طلاباً حوزويين كمبلغين في الخطوط الأمامية في ساحات القتال، وبرفقة عدد من المصورين لإعداد مجاهدين يتحلون بأخلاق إسلامية، وعلى معرفة جيدة بمبادئ وفقه الشريعة الإسلامية، وليرفعوا من معنويات المقاتلين بالأساس".
هذا الكلام المنمق موجود فقط على الموقع الرسمي لهيئة "الحشد"، فيما لا وجود له في أرض المعارك، أو في غالبية ميادين التعامل مع أهالي المناطق المنكوبة، لدرجة أن أفعالهم غير الإنسانية تُنذر بكارثة خطرة ربما ستعود بالضرر على أصل وجود الدولة العراقية، وبقاء اللحمة الوطنية بين المواطنين.
بعد انطلاق معركة الموصل -قبل شهر ونصف الشهر تقريباً- شاهدنا عشرات الأفلام التي تظهر بعض عناصر "الحشد" يرتكبون أبشع الجرائم بحق المدنيين الفارين من معارك الموصل. وجاءت هذه الحوادث المخجلة في وقت تعهد فيه رئيس الوزراء بـ"تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم "داعش" في معركة نظيفة وبخسائر محدودة".
ولإثبات حقيقة التناقض بين "المبادئ" التي يُنادي بها زعماء الحشد الشعبي، والواقع المتناقض مع أبسط تلك المبادئ، نشير هنا لاتهام منظمة العفو الدولية لحقوق الإنسان، وتأكيدها على اتهامها "الحشد الشعبي" بارتكاب ما وصفته بـ"جرائم حرب وهجمات انتقامية وحشية" في حق السنة الفارين من تنظيم "داعش" في الموصل.
هذه الأفلام المتنوعة -والتي شملت ضحايا من الأطفال والكبار وغيرهم- تؤكد أن هناك سياقاً متبعاً في آلية التعامل مع الفارين من الجحيم إلى المجهول، وتثبت أن القيادات الموجودة في أرض المعركة مؤيدة لهذه الأفعال الإجرامية، وإلا فلو لم يكونوا موافقين عليها، لما رأينا هذه الجُرأة في تنفيذ عمليات التعذيب، والإعدام لمعتقلين يُفترض أن يُعاملوا وفقاً للمبادئ التي ذكرتها هيئة الحشد الشعبي، والمتفقة مع روح الإسلام السمحة. كذلك، فإن عمليات التعذيب تلك لم تتم بسرية، بدليل أننا رأينا حشود المقاتلين وهم يتجمعون على شخصين، أو ثلاثة، هنا أو هناك، والضحايا يصرخون، والمقاتلون يهتفون، والصراخ يملأ الآفاق. وهذا يؤكد أن الأمر يتم بصورة صريحة وعلنية، وعلى مرأى ومسمع من القاصي والداني.
تأتي مقاطع الفيديو هذه بعد أيام من تقرير لمنظمة العفو الدولية، حذرت فيه من "تعرض آلاف المدنيين الفارين من المناطق الخاضعة لداعش للتعذيب على يد ميليشيا الحشد".
والتجربة أثبتت أن هذا "الحشد" لا ينضبط بالقيم والمبادئ التي يدعيها قادته، وهو فوق القانون، وربما هو من يُسيّر القانون بالاتجاه الذي يخدم كيانه وصيرورته وأهدافه.
"الحشد الشعبي" قوة غير نظامية أرادت الحكومة تلميع صورتها، ولهذا أسست "هيئة الحشد"، وأقرت قانوناً خاصاً به. والتجارب الماضية أثبتت أن "الحشد" قوة طائفية تسعى لتمزيق العراق وتقسيم أهله، وزرع الفتنة بينهم، وأن عناصره مارسوا أبشع أنواع الإرهاب في عموم المدن التي سيطروا عليها، وهذا لا يتفق مع أسس الدولة المدنية.
ارتباط هيئة الحشد الشعبي بمكتب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، حيدر العبادي، يؤكد أن أفعال "الحشد" تتم بمباركة العبادي وموافقته، وعليه لا يمكن أن يُبرّأ من المسؤولية القانونية والأخلاقية لأفعال "الحشد".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

واقعة خطيرة تختصر حكاية الأمن في العراق!

السفارة البريطانيّة ببغداد... ودبلوماسيّة (الأكلات العراقيّة)!

العيد وسياسات التغريب عن الأوطان!